يجب علينا أن ندركَ بأنَنا لم نَكُنْ أنبياء مثلما ظننا، وأن الخلود هو الانقراض الأكيد. الحقيقة الوحيدة أننا لسنا ملائكة، والخطأ هو الصواب الأكيد. هكذا قلتها على عجل مثل رجل عليه ديون كثيرة.ها أنا منتبه جداً بينما «يدوبل عني» سائق آخر. بابببببببببببب بيببببببب بوم!!! لقد اصطدم بعمود البلدية وفارق الحياة. كان الموت أسرع منه بكثير.
لمَ أخبركم ذلك؟
حسناً إليكم التالي:
إن أوّل ما يخطر في ذهننا بعد رؤيتنا للحادث، أن السائق كان متهوراً بسرعته ما أدى إلى موته. فلو كان أبطأ قليلاً لقلنا إنه لربما سينجو ويعيش، ولو أنه سار أبطأ لقلنا عنه إنه سائق بليد. لكن الجميل في الموت أنه واضح مثل اعوجاج السيارة بعد تعرّضها للحادث. جازم مثل النتيجة الحتمية التي أصابت السائق. الموت ينسف كلمة «لو». يقضي على كل شرطٍ آخر لأنه الشرط الوحيد. ببساطة، يا أصدقاء، إنّنا نعتبر أنفسنا النموذج الذي يجب أن يُقاس عليه سلوك باقي الأشخاص. فمن استزاد على أنفسنا فهو مفرط، ومن قلّ فهو من عائلة التفريط، من ينفقُ مثلنا فهو مُعتدل، أما من يزيد فهو مسرف، من يُقلّ فهو بخيل. لكن لا شيء ثابت، ولسنا معياراً وعلينا أن ندرك ذلك تماماً.

(رسم: فرانسوا الدويهي)


أعزائي وأصدقائي وقرّائي، تحيّة وبعد. إليكم البيان التالي:
قالَ قائل: هذه القرية الوحيدة التي تَقلُّ فيها «البدَعْ» فكرتُ ثم قلتُ في نفسي، هذا الكلامُ بحدّ ذاته بدعَة. من وسائل تحقيق الحق، أن لا تحكمَ بينَ الناس، وبين القرى إيجاباً أم سلباً، إن كنت من داخل القرية أم من خارجها، من أهلها، أو من غير أهلها. هذا هراء، هل سمعت؟ ماذا تقول يا صندوق الرمل أنت؟
‎أينَما وجهتَ وجهكَ، ترى الجميع يفهم «الجميع». طبيب الجلد يفهم بأوجاع القَلب. كاتبُ العدل يفهم بالبناء. أستاذ التربية يفهم بالطقس. الجار يفهم بأحوال الجدران وأَينما وجهتَ وجهك في هذه القرية اللعينَة، ستجدُ مجموعة من النخبويّين، وأصحاب المناصب البارزة، والمُجعجعينَ على وسائل التواصل الاجتماعي والفقهاء، والمُصلحونَ كُثُر ولا إصلاح!
أَخبرهُم يا صلاح «اسمعوا يا أعزائي، يا قُرطَة ناس أَنتُم، إليكُم «البولشِت» التالي: إن الشَّهادة الأكاديمية لا تخوّلكم التدخل في أحوال غَيركم. كما أنها لا تخوّلكُم أن تكونوا مصلحين بين الناس. شهادتكم تزيدكم غباءً، صدقوني. افتَحوا فمكم في وقت الأكل فقط. حاولوا أن تَشبعوا رجاءً، حاولوا، وتقيؤوا كلامكم بعيداً من هنا. لو بوسع المؤَذّن أن يؤذّنَ من بيته لفعل».

‎أيّها الأموات ادفنوا أنفسكم بأنفسكم كي نعرف المنافق من الصالح. يكثر المصلون وقت العزاء ولا عزاء من الأصل! يشربون القهوة. يتحدثون بالسياسة، وبالدولار ومنهم من ينتظر النّائب كي يأتي، ومنهم من يقطع الطريق على النّاس. يا قرطةَ ناس أَنتم، أيّها الأموات. ادفنوا أنفسكم بأنفسكم كي لا يبقى رجل في المسجد، ولكي لا نرى وجه نائب مرة أخرى.
تُسأل: ما رأيك بالمجتمع؟ أي جملة اعتراضية هذه؟ ألستَ من النّاس؟ أتقصد أن المجتمع فاسد؟ ألست من المجتمع؟ هل نحن لسنا من المجتمع؟ أرد: ما الذي يخولنا قول سخافة مثل هذه؟ إنَّها النمذَجة التي لا طائلَ منها سوى الإسراف في التنظير. حسناً أيُّها النماذجَة:
لي أربعة مساميرَ جلديّة في أسفل رجلي كلَّما مشيتُ متراً
‎يُقال لي: لماذا تسير هكذا؟
‎فأقول: أسيرُ هكذا «صَلبطة».
‎فطريقكُم مائلة، وقلوبكم أيضاً، وعقولكم مائلَة، والطقسُ مائل جزئياً إلى مُمطر، ومائل على جالس على أبي أبيكم!
البكاء يا بيت السكينة أنت والأمان.
سأنفجر عما قريب، لست قنبلة كما تظنون، لا داعي لحمل قنبلة، فما زلتُ أحمل كلمتي، كلمَتي التي قلتها مُسبقاً: هذي الأرض كلمتي، والشعوب التي زحفت فوق أنقاضها كلمتي، والرغيفُ الساخن، والفجر ولياليه العشر، والمشرّدونَ والجالسون على أعتاب الليل الطويل يشنقون نجمتهم، والذين يطرقون أبواب الله (لا باب!) أدخلوا كيفما شئتم، ولي كلمتي الطّويلة أيّتُها السَّمراء، سلام عليك أينما كنتِ.
الآن أقول لكم:
كل شيء أخذته كنت أعطيه بالمجان ومن بينهم قلبي، حتّى الكتب التي سرقتها من المكتبة وزعتها، أَعطيت رجلي للطريق، يدي للشخص الذي احتاج للعناق ولم يردّها، وجهي للغيمة وأصابعي للوتر، عيناي للذين لا يستطيعون البكاء وحدهم ليلاً، لساني للشتائم على الدولة، ثيابي للذين تعرّوا من أَرواحهم، وجعي للحمامة، لست نادماً على وقتي الضائعِ بين أغنيَتين، أما الآن، لا طائل من كل هذا، كل ما في الأمر أنني خرجت من المنزلِ، ولم أعد إليه منذ الأبد.
كتبتُ، لأنَّ دمعة طائشة أفلتتْ مني هذا الصباح، سقطت على الأرضِ، وكانت تمطر، فسألت: ترى هل يميّز الإسفلت بين البكاء والمطر؟
ثم قلت:
إن أعطيتك غرفة بها مريض، وسرير، وأدوات طبية هل سوف تصبح طبيباً؟
إنْ أعطيتك كمنجة، وفرقة، هل سوفَ تصبح عازفاً؟
إنْ أَعطيتكَ كتاباً، هل تسمَّى قارئاً؟
إن أعطيتك قلماً، هل تصبحُ كاتباً؟
إن أعطيتك الوقت، هل تكونُ صابراً؟
قال صاحبي القديم ذات نص «ما فَسُدَ لم يكُن صالحاً منذُ البداية». لكن إن أعطيتكَ شارعاً، والكثير من الخيبات والقليل من الحقيقة، ربما سوف تصبح مثلي متشرداً وناقماً، وشامتاً، وشاتماً للأوضاع المعاصرة هذه، البليدة، الخفيفة التي لا يضاهي وزنها قشرة الحضارة.
من يُحب سوف يحب. من يقف سوفَ يقِف ولو كانَ أمامه ألفَ كرسي. صدقني لا تحتاجُ سبباً للغناءِ في وقتٍ متأخّرٍ منَ الَّليل. لينزعِج من ينزعِج. لا تحتاجُ سبباً لشتمِ جاركَ حينَ تقولُ لهُ بدلَ صباحِ الخير بعيد الأم أَحنّ إلى خبزِ أُمك ههههه. ربما سيغضب منك أو يضربك. لكن، فعلاً، كان خبز أمهِ ساخناً، ولذيذاً، صدقني.
صدقني لا تحتاج سبباً لفعلِ شيء. إن كنتَ تريدهُ، افعلهُ، ولا تحدث نفسكَ كثيراً فالحكومة تراقبك أينما كنت، والله أيضاً، كما أنك تراقبني بينما تقرأني. أنا من كنت يقود السيارة التي ذكرتها أعلاه. لم يكن اصطداماً مع عمودٍ، بل صداماً مع واقعٍ برمته. يقولون إن الحاسة الأخيرة التي تبقى قبل مفارقة الحياة هي السمع. سننصت جميعاً ذات يوم، إلى أقدام الذين سيجملون قبرنا، وليس إلى أحاديث الناس. الفم، يا لهذا القفل الناطق.