إنّ التاريخ حافل بلحظات «يوريكا» (aha moments)، تلك الصرخة التي أطلقها أرخميدس في الحمام، وأسعفه الحظ بتدوينها في كتب التاريخ، لكن على الطرف الآخر توجد، بلا شك، ملايين الصرخات التي خرجت في المرحاض، ولم يأبه التاريخ بذكرها لأنها تعود لأشخاص عاديين. يجب ألّا نغفل أنّ المرحاض كمكان له تاريخه الخاص كما للإنسان، وأنه انتقل أيضاً من البدائي إلى المتحضّر إلى النهضة، إلى الإنسان الحديث. إن له الصيرورة التي كانت للإنسان، بدءاً من الطبيعة ككل، بوصفها مرحاضاً، ثم الحفرة، إلى أن صار له مكان خاص يحمل اسمه، ويختلف أيضاً وفقاً للاختلافات الطبقية للبشر.
يتجلّى الصراع الطبقي الذي أولاه كارل ماركس عنايته، من خلال النظر إلى مرحاض كلّ طبقة. في مرحلة العبودية فُصِلت مراحيض النبلاء عن مراحيض العبيد، وفي المرحلة الإقطاعية كان مرحاض الفلاح منفصلاً عن مرحاض الإقطاعي، وفي النظام الرأسمالي كذللك، ثمة مرحاض للعامل ومرحاض للرأسمالي، مرحاض برجوازي، ومرحاض بروليتاري هو الذي أراد له ماركس أن ينتصر على مراحيض الطبقات الأخرى.
على الطرف الآخر، يمكن اعتبار المرحاض، بوصفه رمزاً أو مكاناً، تجسيداً للعدالة أو المساواة بين البشر، سواء في عريّهم فيه، أو كيفية استخدامهم له.
يجب ألّا نغفل أن حقيقة الإنسان هي العري التام الذي يأتي به إلى الدنيا: كائن هشّ، لزج، مُغطّى بالدم، وفي أول لحظة من حياته، بعد بكائه الأول، يتم إجباره على الاستحمام، الإنسان الحديث على وجه الخصوص. سوف تدور دورته، وفي اللحظة الأخيرة من حياته، يتم إجباره على الاستحمام أيضاً، بلا إرادته، كما في المرة الأولى.

«المرحاض» لجون براتبي (زيت على لوح - 1955)

إنّ الحياة، إذاً، تدور بين حمّامين. وهذه الدورة نفسها تتّخذ أمكنةً مختلفة، لكن المكان الأكثر زيارة خلالها سوف يكون المرحاض، أو الحمام، أو الخارج، أو بيت الخلاء والأدب، على تعدّد أسمائه، أو مركّباته المجازية. هناك يرجع الإنسان إلى حقيقته الأولى: العري، لا شيء يغطيه. لهذا يمكن اعتبار المرحاض المكان الأكثر حميمية في حياة الإنسان، الفسحة التي يخلو فيها بنفسه، والتي سوف يتعامل معها أيضاً وفقاً للكناية التي يحملها المكان، بحسب خلفية الإنسان الدينية والثقافية والمجتمعية. للمكان كنايات كثيرة، تختلف باختلاف الانتماء الديني للإنسان، ففي مكانٍ ما، يجب ألا نتحدث هناك، في الخلاء، وأن نظل متّصفين بالأدب، ومتعوّذين من الخبث والخبائث، وأن نطلب الغفران بعد الخروج منه.
في موقع ثانٍ، حمل المرحاض بذور الثورة اللاهوتية، وكُتبت فيه بعض الأطروحات الإصلاحية المهاجمة للفاتيكان. عانى مارتن لوثر من إمساك مزمن جعله يقضي ساعات طويلة في الحمام، الذي كان مصنوعاً من حجر ومزوداً بمصرف بدائي. لحظات التأمل الطويلة التي قضاها لوثر هناك، ساعدته على إعادة صياغة أفكاره الدينية. وفيه توصّل إلى الاعتقاد بأن خلاص الإنسان يكون من خلال الإيمان وليس الأعمال. كما عرف المكان نفسه وفقاً للتاريخ الكنسي، «ندم الضمير» الذي أودى بالكاهن آريوس، بعدما رفض الاعتراف بألوهية يسوع؛ فيما يقول المؤرخون إنه تلقّى سماً بطيئاً قتله على مهل، فقبل دخوله في معركة لاهوتية حامية مع الكنيسة، أصيب بمغص مفاجئ، طلب على أثره دخول الحمام، ولما طالت جلسته فيه، تفقّده أحد تلامذته فوجده ميتاً.
يمكن أن يكون الجلوس الطويل هناك قاتلاً، ولو كان الإنسان ملكاً. استغلّ بعض معارضي الملك الإنكليزي إدموند الثاني حبه للجلوس في الحمام لوقتٍ طويل، لقتله. فخّخوا المرحاض الملكي عبر تزويده بقوس مشدود فيه سهم، مجهز للانطلاق فور جلوس الملك، وثمة رواية ثانية تقول إنّ القاتل تسلل من فتحة المرحاض.
يجب ألّا ننسى أيضاً أنه خلال الانسحاب الأميركي من العراق، حملوا معهم مرحاض صدام حسين، إلى المتحف العسكري في ميسوري داخل الولايات المتحدة.
يمكن القول إذناً إنّ المرحاض داخل تماماً في عملية التأريخ وفاعل بها، ذلك أنّ لويس الثالث عشر كان يضع مرحاضه إلى جانب عرشه الملكي، احتفاءً بهذا الاختراع، أما لويس الرابع عشر الذي وضع أتيكيت وبروتوكولات قصر فرساي فقد نصّ على أنه لدى ذهابه إلى المرحاض يجب أن يكون المرافقون معه، خصوصاً لحظة جلوسه. ثمة طائفة سياسية نشأت أيضاً بفضل المراحيض، هي عرسان البراز (كانت كلمة البراز تعني المقعد المستخدم في الحمام). مع مرور الوقت أصبح عرسان البراز طائفة اجتماعية راقية يتلمّس كثيرون نيل رضاهم نظراً إلى قربهم من الملك، ثم توسعت صلاحياتهم وتجاوزت تنظيف المراحيض، وبات من حقهم التدخل في اختيارات ملابس الملك وأدواته الشخصية، بل وتحمّلوا أيضاً أعباء إدارية/ سياسية حتى أصبحوا بمثابة سكرتارية غير رسمية للملك.
تكتسب هذه الفاعلية التاريخية للمرحاض أبعاداً أخرى إذا نظرنا إليها نظرة كارل يونغ، صاحب نظرية «اللاوعي الجمعي». نعرف أنّ المرحاض في المراحل البدائية من التاريخ كان الطبيعة كلّها، أو الكهف، أو أي مكان، قبل أن يتعرّف الإنسان إلى الحفرة. إنه إذاً مكان معروف بوصفه حراً، حيث يمكن للإنسان في داخله أن يقول أو يفكّر بأي شيء، بصوتٍ عال، ويمكن أن يكتب هناك -قديماً أو حديثاً - اعتراضاته وآراءه بلا تكميم فمه. من جملة ذلك ما نراه على جدران المراحيض العامة والمدرسية والجامعية. لقد كان جيل ما قبل الميديا يجعل من جدران المراحيض وسيلة للتعبير عن القضايا ورفع الشعارات ومناقشة التابوهات. إنها إحياء لذكرى الإنسان القديم على مستوى الرسم والكاريكاتير.
في المرحاض يعرف الإنسان لحظة من الحرية لا يعرفها في مكانٍ آخر، لحظة يجرؤ فيها - خلال نشوته ووحدته - أن يترك كلمته الخاصة بقضية ما. إنه مكان للممارسة الديمقراطية، وإنّ ما يُكتب هناك لهو رجع صدى صوت المقهورين الذين لا يملكون ثمن شراء جريدة وليست لهم قدرة على الكلام. نرى ذلك في تسمية المرحاض بـ «الخارج» في معظم الأماكن، أي المكان البعيد أو غير المدرك، إنه «خارج» السلطة القمعية، خارج المراقبة، وخارج العالم المحفوف بالمخاطر. إنها لحظة التطهير الأرسطية، التي يرجع الإنسان فيها إلى لحظة الاعتدال.
يحقّق المرحاض مثل هذا التطهير الذي كان يُسعى إليه في المسرحيات اليونانية. غاية التطهير هي أن يتخلّص المتفرّج من فائض انفعالاته ليرجع معتدلاً، متقبلاً ما هو في مجتمعه، والتراجيديا اليونانية هي المصرف الأمين للعواطف الزائدة. كذلك أيضاً، فالمرحاض، بخلوّه من الضجيج، هو مكان للتأمل. إنه - بيولوجياً - مصرف لما هو زائد في الإنسان. تصاحبه لحظات تأمل لا بد منها، خلالها أيضاً، يمكن أن يتخلص الإنسان من الفائض من انفعالاته، ثم يرجع معتدلاً إلى عالمه، بعدما كان في «الخارج».