جرّب البحث في ذاكرة كبار السنّ، إن كانوا من سكّان مدينة بيروت أو حتّى من مرّوا بها، سترى تلك الصور وتسمع تلك الأحاديث والقصص، عن أيّام الرغد والزمن الجميل الذي عاشته هذه المدينة قبل الحرب الأهلية عام 1975. كيف كانت مقصداً للأجانب والمُقيمين من جميع طبقات المُجتمع على حدٍّ سواء. وفي الحديث عن كبار السنّ، سيكون بإمكانك إدراك هذا التشابه الفظيع بين قصّة تلك المدينة خلال العقود الثمانية الماضية وبين قصص هؤلاء. فمنذ ولادته حتى موته، يمرّ جسد الإنسان بتلك المراحل المُتعاقبة من الصحة إلى المرض، من النضارة إلى الذبول، حتّى تفقد أعضاءه بريقها في النهاية، وبعضها يفقد عمله ويتمّ تسريحه النهائي مُعلناً نهاية القصّة.
«ذكرى» لإيمان الطفيلي (أكريليك على كانفاس - 2019)

يعرف سيء الحظ آلية عمل مرض السرطان في جسم الإنسان. هذا المرض المعروف بالخبيث، يتوغّل ويغزو الأنسجة بهدف تدميرها. كذلك، يعرف سكّان ما كان يُعرف بوادي أبو جميل والصيفي وباقي مناطق هذا المُحيط مشروع «سوليدير». هذا الظلام الذي يُخيّم على الخلايا التي يزورها السرطان هو نفسه، يعرفونه، يعرفون هذا القضم والنهش والضباب الذي خيّم على الحياة في هذه الأزقة والحواري، كبلدة من القرن الثالث عشر غزاها الطاعون. صفائح من الباطون، خالية من أيّ مظهر من مظاهر الحياة. تمظهر شكلي للفخامة والرقيّ تُعنى به فئة مُحددة أو طبقة مُعينة دون غيرها من سكّان العاصمة. كأنها تلفظ إلى الخارج، كلّ مظهر من مظاهر البساطة والانسجام، ذاك التجانس اللطيف من ذاكرة من عاشوا في الوسط التجاري أو «البلد» كما يحلو لهم تسميته، اقتلاع قسري لكلّ شكل من أشكال الألفة والدفء.
في كتابه «الأيادي السود»، يسرد رئيس «حركة الشعب» والسياسي نجاح واكيم أسلوب السطو على منطقة بيروت المركزية أو ما يُعرف بسوليدير، مشروع إعادة إعمار وسط المدينة بقوله: «في زمن الحرب، كان هناك شعار يتردد بين الأطراف المتقاتلة يقول: «من يسيطر على وسط المدينة يسيطر على وسط بيروت». وبالطبع لو استطاع أيّ طرف السيطرة على بيروت لكان سيطر على الوطن. ما من أحد استطاع تحقيق هذا الهدف الإستراتيجي طوال سنوات الحرب وبقي وسط المدينة يتداعى أمام المتاريس المتقابلة، كان المطلوب تدمير ذاك (العقد) الذي يربط معنى العاصمة والمدينة». ويُتابع: «الوحيد الذي استطاع خرق هذه المُعادلة هو السيد رفيق الحريري، وفي زمن مُهيأ لمثل هذا الانقضاض، انتشى اللبنانيون بتلك اللحظة (...) وهكذا كان الرابح الوحيد في الحرب هو الشركة العقارية، حيث انتصرت على الجميع أصابت الهدف الذي استحال لسنوات، أي قلب بيروت، فجاءت الجرافات ومحت ما عجزت عنه المدافع لبناء إمبراطوريّة سوليدير».

بالنسبة إلى أشخاص يعيشون على أطراف «سوليدير»، في الأحياء المُتاخمة، مثل الخندق الغميق وبرج أبي حيدر مثلاً، سيبدو الحديث التالي مألوفاً. تلك المشاعر المُرافقة لشُبّان ومراهقين قرّروا جرّ أرجلهم قليلاً لمسافة أبعد من مقهى الحيّ ومحلّ الكمبيوتر، ليقوموا بنزهة فضولية وليتعرّفوا على وسط المدينة ذاك. تلك المشاعر التي تتملك المرء عند ذهابه إلى مدينة جديدة أو بلدٍ آخر. فجأة تختفي كلّ شرطان الكهرباء المُتشابكة التي تربط مبنى بآخر وتحجب لون السماء أحياناً، وأصوات الباعة المُتجولين سُرعان ما تصمت تماماً، ليُخيّم بالنيابة عنها ذلك الوجوم المُتكلّف الذي يسري كرعشة رعب في هواء تلك الشوارع. بالطبع يُأخذ الإنسان بمظاهر الأبّهة والفخامة هُناك، ولا تخلو تلك المنطقة من البلد من الجلبة والحركة، لكن مع مرور الوقت، سُرعان ما تبدأ بالاشتياق إلى تلك الألفة المُمددة على جنبات الطريق في الحيّ الذي تقطن فيه، على بُعد أمتار قليلة من ذاك الجسم الغريب، سوليدير، في العاصمة. يظهر الحنين إلى صوت بائع الخُضار وهو يصرخ تسويقاً لمُنتجاته، وحديث الجارة مع جارتها من شُرفة إلى أخرى. يُصبح فنجان القهوة الذي يُشترى ببعض الفُتات من مقهى الحيّ مُقارنةً بذاك الفاخر في وسط المدينة، مع أصوات السُكان وحديث الشباب وصراخهم الصاخب الخالي من أيّ تكلّف وتظاهر، بذاك الشيء الذي يعنيك ويخصّك، كأنك انسلخت تماماً عن مكان الراحة ورُميت إلى عالمٍ لا تنتمي له ولا تعرف لغته، عالم يختلف فيه فنجان القهوة عن فنجان القهوة الذي يباع بين بعض الأمتار والأخرى. حتّى لو ذهبت مع بعض الأصدقاء فلن يخلو الأمر من ذاك الشعور بالوحدة والاغتراب. وستعود سيراً إلى شارعكم، ستتنفّس هواءه، وتشعر أنك عُدت إلى وطنك بعد فترة غُربة، كما يهرع الطفل إلى أمّه بعد يوم مدرسي طويل.
يُتابع نجاح واكيم في الكتاب المذكور سابقاً سرد حكاية سوليدير وقصة تلك الشركة العقارية، فمن المُخالفات التي ذكرها، ثمّة واحدة مُثيرة للاهتمام والرعب في الوقت نفسه: «في تاريخ 15 شباط 1996، انهار المبنى القائم على العقار رقم 999 في وادي أبو جميل على عائلة تُقيم فيه من آل عيّاد، بعدما أقدمت شركة سوليدير عمداً على تفكيكه من الداخل، الأمر الذي أدّى إلى انهيار المبنى على ساكنيه فقتل منهم 15 شخصاً وجرح ثمانية آخرين». إنّ مجرّد تخيّل هذه الواقعة المُريعة، والكثير من الوقائع الأُخرى، كالمخالفات القانونية التي لا تقلّ فظاعة، يُقرّب الصورة أكثر إلى العقل من هذا القضم والنهش الذي قامت به تلك الشركة العقارية في جسد العاصمة بيروت. بالضبط كما يفعل مرض السرطان بالخلايا.
لا يتمنّى أحد أن يكون من سكّان العشوائيات، مع ما يترتب على هذا الانتماء من ضجيج وعشوائية في العيش، بالطبع يسعى الإنسان دائماً إلى ما هو أفضل، إلى أن يخرج إلى الشُرفة ويرى الأفق من دون أن تحجبه شُرفة المبنى المُقابل مع منشر غسيله أو عشوائية اللافتات وشرطان الكهرباء كأن عنكبوتاً أسطورياً مرّ من خلاله. لكن، بالعودة إلى الحديث عن الجسم الغريب، كان مشروع سوليدير استكمالاً لتوسع الشرخ الطبقي في المُجتمع اللبناني، ترسيخ لثقافة مريضة توزّع، حتّى المناطق، لهذا على حساب ذاك. لن يمنعك أحد بالطبع من ارتياد تلك المحال أو التسكّع في شوارع سوليدير، لكنها ستحمل دائماً طابع التظاهر الزائف بالرُقي، بالنسبة تقريباً إلى كلّ مناطق لبنان. فلا يقتصر الأمر على الشوارع المُحيطة فقط، حتّى إذا تراجعت بالخريطة أبعد من ذاك، فستكون منطقة سوليدير مجسّماً غريباً عن ضواحي بيروت كذلك، عن الأوزاعي والرحاب والكرنتينا مثلاً، عن بعلبك وعكّار وباقي مناطق الأطراف. طرف صناعي في جسم إنسان، مبنى وسط الغابة، جرّار زراعي في صحراء، شجرة صنوبر في بيت وكلّ مظهر يُمثّل الغرابة عن مُحيطه.