في منزل العائلة الصغير، في قرية تسكن قلب الهامش، كنا ننتظر عودة والدي من الخليج، محمّلين برفاهية استعادتنا له كرمز ربوبي للمنزل. ولأن رب البيت في القرى، خاصة أواخر التسعينيات ومطلع القرن الواحد والعشرين، كان يتمتّع بدلالة ألوهية مبدئية، فإن فاعلية المركز في المنزل، كانت تنطلق عادة من نشاطه الخاص. أما ليلة عودة والدي فكانت بذاتها ليلة عيد ميلادي. ولأن الذاكرة لم تسعفني، اتصلت به كالعادة، محمّلاً بسؤال شخصي يتعلّق بكتابة هذا الموضوع: لماذا تظل هذه الليلة مميّزة في تاريخ العائلة؟ ليأتي جوابه «كنت عائداً من فترة عمل طويلة تجاوزت السنة. أوصتني أمك بإحضار هدية مميزة لك وللبيت. لهذا اشتريت جهاز فيديو، ومجموعة من شرائط الأفلام. كانت فكرة جميلة، لأنني كنت أهرب من ملل زيارات الضيوف بالتجمّع حول فيلم. إنه لمن المدهش أن تستقبل ضيفاً بقبول ومرح من دون تحمّل عناء الكلام».

شاشة أولى: مركز البيت
يقف بابا في مركز الصالة وينادي «هنشّغل فيلم» بصوت مسموع لنا في الغُرف. الصالة في المنزل هي بوّابة العبور إلى كل ناحية، سواء للتسلّل إلى الخارج، أو الذهاب إلى المطبخ أو الحمّام. الغرف الأربعة متّجهة بصورة دائرية ناحية الصالة. عندما يصلنا نداء الإيذان بسهرة لمشاهدة فيلم، كنت أخرج قبل جميع إخوتي، أجرّب أكثر من مكان أمام التلفزيون وأختار، من خلال الحدس، أفضل مكان للمشاهدة.

«داخل» لمارال دير بوغوسيان (زيت على كانفاس - 2011)

يقف بابا أمام التلفزيون مانعاً تسلل الضوء إلينا، ليسأل الضيوف بتكلّف عن الفيلم الذي يودّون مشاهدته، فيما نعرف نحن أفراد عائلته، أن السؤال مجرّد إجراء شكلي، لمعرفتنا المسبقة بأنّه سيختار في النهاية فيلم «الكيت كات». لا يتراجع بابا عن التلفزيون إلا بعدما يتأكّد من بدء الفيلم. يتلاشى عندها الوجود الفردي لكل شخص، ونصبح جميعنا في حالة وجود مشترك، أي في «رحم الأم» مثلما يقول جاك لاكان عن الجلوس في قاعة السينما.
في «جماليات المكان»، يعدّ البيت عند غاستون باشلار وجوداً مكثّفاً، يتجه عادة إلى وعينا بالمركزية. وعلى نحو تفصيلي أكثر، فإن الشاشة ستتحوّل بذلك إلى مركز داخل المركز. عندما نجتمع حول الشاشة، ونشترك كلنا في نشاط واحد هو: المشاهدة، تصبح كل عناصر البيت الأخرى مهجورة، وتعلن الشاشة لنفسها السيادة على اللحظة الراهنة.
قتلنا الملل من تكرار مشاهدة «الكيت كات»، فرضنا على أبي في مرات تالية تشغيل فيلم آخر، وهو «صعيدي في الجامعة الأميركية» أو فيلم كوميدي خفيف من الاختيارات المتاحة. رغم كل التغيرات الفرعية التي طرأت، ظلّت الشاشة مركزاً مستداماً للمنزل، و أعطت لصالة البيت حضوراً مقدّساً، بحيث يظل محيط الشاشة مهيَّئاً دائماً للالتفاف حولها.
حميميات الطفولة دارجة، أن نجتمع يومياً على طاولة الطعام مثلاً، أو أن نسهر حتى دخول الفجر، أو أفاجأ بطلوع الصباح وأنا نائم في سرير أحد إخوتي. النوم أمام الشاشة أيضاً له حميمية معيّنة وهي القدرة على استعادة أمان الوجود بين الجماعة. أن تغفو قليلاً أمام الشاشة، وعندما تستعيد وعيك تجد كل شيء مثلما هو، يطمئنك الزمن أنه في حالة توقف طالما أنت في ذلك الإطار الآمن.
بعد انتهاء إجازة بابا، فقدت مركزيّة الشاشة سلطة عملها. فوقوفي أنا أو أحد أخوتي أمام الشاشة لتشغيلها يظلّ منزوع القدرة على الحضور الممتلئ للأب، حيث يتسرّب الضوء الملوّن من اليمين واليسار. اقتنعنا بالشاشة كمركز لعالمنا الصغير انطلاقاً مما تبقّى من ألفة الاجتماع حولها. ثمّة سلطة على الزمن ظلت باقية، وقدرة على الاحتماء بوجود مكثّف.


شاشة ثانية: الهروب من ليل المدينة الغاضب
من هامش القرية إلى هامش المدينة انتقلنا، إلى مدينة بورسعيد. وهي أشبه بإقليم ساحلي صغير، مدينة هادئة وحميميّة، يتدفق الزمن خلالها كالماء. في المدينة، لم يختلّ الشعور بفقدان المركز فحسب، فقد تداعت أيضاً مساحة التشوّش لجدلية الداخل والخارج. كيف يمكن للبيت أن ينتقل معك أينما تحرّكت؟ أتذكرُ الآن أنني كنت مثل حامل لشاشة يبحث عن صالة في العراء.
لم تعد تُقام تجمعات ليلية في المنزل. انسحق أبي تحت وطأة ضروريات العمل في الخارج، وانشغل الأبناء في مساراتهم الشخصية. استحال شباب الشاشة إلى شيخوخة، كلما استبدلنا تلفزيوناً بآخر، بدا الجديد أكثر كهولة وبؤساً، انزوى جهاز شريط الفيديو أسفل طاولة التلفزيون، ثم إلى هجر دائم أسفل السرير.
بدلاً من البحث عن مركز جديد داخل البيت، تولّدت رغبة في اكتشاف مراكز أخرى في الخارج. المدن مهما بدت هادئة تظل إيحاءات ثنائيّاتها تحتمل الوهمية، استدعتني المدينة إلى فراغ الخارج، باعتباره ظاهرة تلوّح باحتمالات لتعدّديّة المراكز، وأنا بدوري كان سلاحي بحوزتي مسبقاً: يمكنني حمل شاشة دائمة!.
عن جدلية داخل البيت وخارجه، يشير باشلار إلى أن داخل البيت منوط دائماً بالاحتماء، بينما الخارج هو الدلالة الأولى في التاريخ للتعبير عن الخطر، عن فزع الوقوع في الخلاء. حينما نودّع ضيوف المنزل، خاصة الراحلين في قلب الليل، يكون وراء أمنيات عودتهم إلى منازلهم سالمين، خوف عتيق، غير معلن، عن خطورة مواجهة الخارج.
ومن أجل تفادي الوقوع في فزع الخارج، مثل الوقوف فجأة أمام صحراء ممتدة، لجأت أولاً إلى الحفاظ على ربط أماكن العمل بشاشة ما، تمكّنني، حينما يتاح لي، من مشاهد حلقة من مسلسل أو فيلم. بحكم الالتزامات اليومية وحتمية الإلهاء، بدت فكرة خلق شاشة مجرّدة تنطلق من داخلي أكثر فعاليّة: أن أكون فاعلاً إضافياً في بيانات الزمان والمكان، يصبح الخارج كله احتمال مبطّن بدواخل متعددة. أن تقرأ في ما وراء المكان الظاهر بيت مختبئ، في المقهى، أو في شارع جانبي، أو في فراغ مطبق. يشير باشلار إلى هذه الحالة، أن البيت كتعريف مجرّد، هو بيان سيكولوجي يمكن قراءته من خلال التنقيب عن الألفة. عند مرحلة التنقيب عن الألفة، استحال توثيق التيه اليومي لينعكس إلى انطباع داخلي، سالت كل الشاشات المركزية، في المنزل وفي مكان العمل وعلى المقهى، وحتى عيني كشاشة أولى، تحوّلت إلى إضافة جديدة لتعريفات التيه الممتدة.
العين مشّاءة بدورها، تستطيع أن تستقطب تقاطعات، وتخلق حدساً جديراً بالثقة، أكثر من تحقيق ذلك بالاعتماد على القدم، تخلق العين بيوتاً مسبقة، تقف على ناصية المكان وتحدد. هذه البقعة مناسبة لأنها تطوي تعريفاً مؤقتاً لبيت ما، يكفي للجلوس في حدود مساحته ساعات عدّة. حينما تفقد بوصلة التفضيل هذه، تلجأ إلى الاكتشاف بالمشي كبديل، ينبت الخلل مثل شيطان نبيل، يتخذ لنفسه مسار اكتمال مختبئ، بينما يظن الواحد أنه، أخيراً، ظفر ببيت جديد مؤقت. يصبح وقتها البيت المختار بقعة تيه مكثّفة، مضادّة للبقعة المركزية في بيت العائلة القديم.

شاشة ثالثة: زوايا الغرف
انتقلت إلى القاهرة محمّلاً بالرغبة في رؤية جديد، أو متتبعاً أمل الارتكاز في نقطة معلومة أكثر. حينما ينظر أحدنا إلى محيطه، ويكون قادراً على إدراك موقعه من حيثيات المكان، يصبح أكثر قدرة على تقبّل الوقوع في ورطة. المدن المركزية مفعمة بملاحقة المعاصر، تتشرّب أفكار العالم بالجملة ثم تبدأ بتسريبها إلى أكبر مدى جغرافي. لكن القاهرة، كمدينة مركزية، ليست بيتاً كبيراً، لأن حدود الداخل والخارج فيها ملتبسة، هي مدينة تداعى التضخم فيها حتى استحالت إلى شكل لا يمكن هندسته، بالتالي يمكن تعريفها، من خلال حيثيات البيت عند باشلار، بأنها فراغ كبير مفعم بزحمة داخلية.
ثمّة قاعدة في القاهرة ذات استثناءات قليلة، بديهي أن تُهان يومياً في البحث عن غرفة مستأجرة مناسبة، سماسرة المدينة أُمناء شرطة لصالح وهمية المكان، تكلم أحدهم لأجل غرفة معروضة أونلاين، وتتلقى منه انطباعات مسبقة آمنة عن المكان. إلا أنك ستفقده فجأة أمام حيثيات أكثر تعقيداً، ومن ثم تهيم في الشارع/ الخارج مرة أخرى من دون ضمان بإمكانية العثور على مكان آخر. ذلك الضياع المفاجئ، الذي يقذف الواحد عادة على أرصفة المدينة في المقاهي، يظل واقعاً في قلب الشك، لأنك دائماً قادر على إيجاد غرفة مستأجرة وقتما طلبت، وفي نفس الوقت أنت أكثر عرضة لأن تُرمى خارجها بعد دقائق، المكان المتوقع الآمن دائماً يحتمل أن يكون تهديداً مباشراً.
تُدرك أنك مراقب من عيون المكان حينما تستطيع خلق لغة خاصة بتلوّناته. عين القاهرة شاشة ضخمة، تضع كل أشخاصها ضمن تكوين المشهد. كل الأطراف الفاعلة في المكان هي جزء من مشهدية الشاشة التي تعرض كل شيء بلا وسيط، بحيث أن الزمن الواقعي هو ذاته زمن المشهد، وحالة التوثيق الحاضرة أوليّة جداً، لا تحتاج إلى وسيط فنّي.
متنقلاً من غرفة مستأجرة إلى أخرى، في وسط المدينة وعلى أطرافها أتحرك. لم أستطع مرة واحدة أن أحدد لنفسي نقطة مركزية ضمن الغرف التي سكنتها. في مثل هذه الحالات، يكون الدفاع عن حدود بيتك الخاص منوط بفزع دائم، لأن هناك تخوّف دائم من أن تغير المدينة جلدها في أي وقت. في أول غرفة استأجرتها، كنت أشبه بساكن في قلب الشارع، لم أستطع طوال شهرين، أن أتمتّع بالغرفة ليوم واحد كملاذ من الخارج. غيّرت أكثر من مرة مكان طاولة عليها لاب توب ومجموعة الكتب القليلة. منتصف الغرفة لا ينفع، انعكاس رداءة الإضاءة مصدر صداع نصفي. الاقتراب من النافذة وسيلة جيّدة للجلوس في أفواه السائرين في الشارع. هناك شعور دائم باقتحام الخارج للداخل. تحوّلت طاولة العمل إلى طاولة للأكل، وفي ساعات الفجر الأولى حتى يقظة المدينة كنت أسرق وقتاً قليلاً للمشاهدة.
في البحث عن شاشة جديدة وسط تلوّنات القاهرة اليومية، فقدت بوصلة اصطياد بيوت مؤقتة بالعين، وبالتتابع أصبح المشي دوراناً في متاهة مغلقة. انتقلت إلى غرفة داخل حارة في القاهرة القديمة، كان الدخول إليها من الشارع المركزي حركة تصاعدية للخروج عن سياق الزمن، تفقد شعور الصخب الدائم كلما تقدمت إلى الداخل، حتى تنتهي إلى صمت جميل أمام مدخل البيت. آه، وجدت ضالّتي.
غرفة بلا طاولات، فقط سرير ودولاب صغيرين، كنت أحمل شاشتي في يدي أينما جلست على أرضية الغرفة، ملتصقين باحتماء متبادل، لكن البقعة التي كانت ملائمة لي على الدوام، هي إحدى زوايا الغرفة الفارغة حيث كنت أجلس.
تتكون الألفة من حضور الجماعة، من القدرة على الاحتماء المشترك، لأن الانتصار على تدفق الزمن بمفردك هو لعبة خاسرة لا محالة. تحوّلت الشاشة في الغرفة الجديدة إلى منبّه يومي للانزواء الخائف عن سياق المدينة، والذي يشبه الخروج عن حيّز الوجود بأكمله من دون أيّ بديل. إنه تحوّل من طرف فاعل إلى آخر متلقٍّ. تهرب من سلطة المدينة كي تجد سلطة أخرى عكسية، فالشاشة في القاهرة مدى متحرك يمتد من طبائع المدينة ذاتها.

ذات يوم، انتقلت مع صديق قديم إلى شقّة جديدة في القاهرة تمتلكها إحدى قريباته. أعدت ترتيب الغرفة من جديد، حددت أكثر من مكان جيّد للمشاهدة، تركت أفلاماً كثيرة مؤجلة على الكومبيوتر، وقلت لنفسي، لقد انتصر دون كيخوتة أخيراً على طواحين الهواء.
عند مطلع نهار اليوم التالي، أفقت من نومي على صوت اصطدام ضخم، وجلبة أصوات كأنما تخرج من غرفتي. كانت الأصوات آتية من حادث على الكوبري الكبير القريب من نافذة الغرفة. فتحت النافذة وتخيّلت أنني لو قفزت منها إلى حافة الكوبري، فسيتمكّن أحد الواقفين من التقاطي. تنبّه إليّ أحد أصحاب السيارات الواقفة على جنب الطريق، وأشار بيده معتذراً.
كنت، قريباً من سذاجة كيخوتة، أهيم في فراغات المكان.

شاشة أبدية
منذ أشهر عدّة، خلال إحدى زياراتي الشهرية إلى بيت العائلة، وجدت شاشة كبيرة تتوسط الصالة. قال لي بابا إنه اشتراها صدفة من صديق يبيع بقايا بضاعة إحدى محلّاته.
إجازة وراء الأخرى، أرى بابا، المتقاعد عن العمل منذ سنتين، يجلس معظم الوقت وحده، يقلّب القنوات بحثاً عن مشاهد مسلّية.