هذا النصّ مسودة. يُقال مسوَّدَة (شدّة على الواو) باللفظ الصحيح، لا كما هو شائع عبر قولك مسوَدّة (شدة على الدال). رغم ذلك، سنميل إلى اختيار اللفظ الشائع الذي يحيل إلى المسودّة وفعل الاسوداد أكثر من إحالته إلى الفاعل الإنساني في كلمة «مسوَّدة». هويّة هذا النصّ وموضوعه هما هذه المسودة في حال كنت مهتمّاً. كثيرون سيحدّثونك عن مسوّدات الكُتّاب إن سألتهم عنها؛ ذاك لا يعير اهتماماً لها ويرميها مباشرة بعد تنقيح نصّه وتحريره وتجهيزه للنشر. آخر يضعها ضمن مقتنياته كذكرى، عسى إن أخذ نوبل يوماً ما (حتماً ليس جائزة البوكر) تصير هذه المسودات ذات قيمة كبرى، تباع بأثمان باهظة، أو توضع في المتاحف مخلِّدةً مجده الأدبي. الجميع سيذكر لك شيئاً ما حين تلفظ أمامه كلمة مسودة، عن كاتب ما. إن ما تثيره كلمة مسودة هو الترقّب دائماً لأمر قيد الإعداد ولعدم الاكتمال، فتحيل إلى المستقبل الآتي ناسين حاضرها تماماً. هذه المرّة دعني أنظر إلى المسودّة من زاوية أخرى، بما هي مسودة، أي عمل مكتمل العناصر فعلياً ضمن جنسه «المسودات» (ليس هناك جنس كتابي من هذا النوع ولم يدّعه أحد)، وهنا يُبرِز نفسه سؤال: هل الأعمال الأدبية الجاهزة والمنشورة على أنها كتابةٌ خضعت للتحرير والتنقيح والعرض اللازم، خرجت عن كونها مسوّدة فعلياً؟ وشيء آخر، هل المسودة تتضمن الفعل المكتوب فحسب دونَ غيره؟ أليس هناك أفعال مسودة مثلاً، حياة مسودة، شخص مسودة، بلد مسودة؟
رسم (فرانسوا الدويهي)

إن كان غاستون باشلار قد وصّف قبو المنزل في كتابه «جماليات المكان» بأنه لاوعي الإنسان بسبب ما يحتويه القبو من فوضى وعتمة ومجهول، فإن المسوّدة هي قبو الكتابة الغامض والسرّي، الذي يثير هلع الأستاذ إذا تسرّب شيء منه إلى المبيضّة. هناك يبدأ الارتماء الأول مثل خلاص من كبت الصمت، وقد يدخل في هوّته مجدداً عبر الكتمان، الذي هو الصمت عن حضور المكتوب وليس غيابه.
لكنها رغم ذلك التواطؤ الأبرز مع الصمت: تقرير ما يقال مما لا يُقال. إذا ألقيت نظرة في مسودّة كتبتها أنت أو غيرك، فإن أول ما يطالعك منها الشطب وغياب الترتيب والفوضى الكامنة التي تحاول السعي إلى انبثاق معنى ما. خربشات تفشي بتردد صاحبها وانزلاق شيء من أسلوب تفكيره وقلقه البارز، ولسنا بحاجة إلى إيراد أمثلة لتأكيد ذلك. أول الأثر البشري في الكتابة هو المسودّة. هي ترتبط على هذا إذاً بالـ «ما قبل»، فهي أولاً ما قبل التيقّن من العبارات التي تتضح لكاتبها وتنال رضاه أو جهله حتّى. وهي ما قبل النشر الذي يسبقه التحرير والبحث عن تناسق يدخل القارئ في الجو ويحسب حسابه. فهي أيضاً هنا ما قبل القارئ، والحسِّ العام وإشكاليات التلقّي على تفرّعها. هذه الحماية من الخارج والرقابة التي توفّرها، تدفعان الكاتب إلى اختراق المحظور أياً يكن، وتسمحان بالتداعي الحر للأفكار، مبعدتيْن النظر عن الأخطاء التي قد يرتبكها، لغويّة كانت أم دلاليّة. وحين يمسّ الكاتب شيءٌ من التعقل، يبدأ بالسعي لتلمّس الكُلّ الذي ينعرض على نفسه، محاولاً وضع الفكرة على الأقل، في إطار الفهم فمحاولةِ الكتابة الفعلية. هل نستطيع أن نقول إن مسودّة ما هي كتابة؟ هي شيء آخر، تقترب من الهذيان والخربشات أحياناً، وتبتعد في الموضوعية الباردة التي لا تخطئ أحياناً أخرى. فإن أردنا أن نثمّن الكتابة المسودّة ونحاول تصنيفها ضمن أدب مستقلّ، فعلينا إذّاك حصرها في المسوّدات الأدبية لا العلميّة مثلاً، ويجب علينا في الأولى أن نلمس نبضاً من معنى ما، معنى متوخّى. وهنا ربّما تلتقي الكتابة المسودة مع النظرة التفكيكية للمعنى، بأنه –المعنى- «مؤجل» دائماً. نستطيع جزم هذا إن لم ننتقل إلى المسوّدة الثانية أو الثالثة أو الرابعة لنفس العمل المرجوّ. قليلاً ما وجد الهامش سعةً في الصفحات، إذ يستأثر المتن دائماً بخدمة الهامش له، لكن في المسودة يسطع الهامش وقد يتحوّل في أية لحظة إلى متن. وابتغاءً لتعاضد الفكرتين، نتوصل إلى أن الهامش في المسوّدة هو متن مؤجّل. إذاً هي الما قبل، فيتفتح أمامنا معنى: الترقّب من انفتاح الاحتمالات، أو التعثّر من ضيقها. وفي الموقفين هي بحث مستميت وتأكيد لحريّة قبل أن تكون تأكيداً لمعنى، عدنا للما قبل مجدداً: ما قبل المعنى.
ولا تنحصر المسودة باللغة بل تتعداها واصلةً للأشكال والرموز من خطوط ونقط ورسوم. هذا شيء من اللاتناسق في البنية النصيّة، آت من اقتران الكتابة بالهو كذلك الأمر. طالما ليس هناك من رقابة مدقق أو محرر أو قارئ ما، أرتكب ما أشاء. في المسودة يسود العنف، تمرّ على بعض المسودات، مثل مسودة رواية فلوبير «مدام بوفاري»، لتجد معظم الأسطر في صفحاتها مشطوبة لا بخط بل بخطوط كثيرة عشوائيةٍ، كأنها تعبر عن عدم الرضى وابتغاء مثاليّة تلحّ على كاتبها، للوصول إلى العبارة والمعنى المناسبين. قصّ وتقليم العبارات، مبنى ومعنى، مقصلة النمرود التي ينجو منها ما ينجو ويعدم ما يُعدم. ألا توقظ المسودة في كاتبها، حكاية موسى والنمرود، حين حاججه «أنا أحيي وأميت» هل الكاتب فعلاً يحيي ويميت الكلام بهذا الشكل؟ أليست تجعل من الكاتب القاضيَ والقاتلَ في الوقت ذاته، بل قد نثبت أنها تجعله أقرب للقاتل، فهي متماهية معه، إذ كم من نصوص بهذا التصور، هي نصوص بريئة في المبيضة، لكنها في المسودة نصوص قاتلة متسلسلة، مثلها مثل المخطوط السامّ والمسموم في رواية "اسم الوردة" لأمبيرتو إيكو. المكتوب صنو الموجود، يبحث عن كماله الدائم من خلال تدافعه بطاقة النقص ذاتها: فإن استندنا إلى فكرة التناصّ في الأدب، وقلنا مع البنيويين بأن لا مجهولية تامّة في الأدب، والموضوع عبارة عن تتابع، أي أخذ وعطاء دائمين، فبهذا المعنى تكون الأعمال الأدبية كلّها عبارة عن مسودّات قُدِّمَت بشكل جيّد للقارئ فحسب، ابتغاء فعل المقروئية بذاته أكثر مما هي ابتغاء أدب كامل مستقلّ بذاته، يعبّر بتحضُّر عن الإنسان. إنها مجرّد نظريّة.
يخرق الكاتب كثيراً -بقصد أو دون قصد- الكثير من القواعد والمحرّمات. أول ما يخرقه بياض الورقة والفكر. وبالإضافة إلى توفّر الحميمية في المسودّة، لأن الآخر غائب في فعله، قد يحضر في الذهن والترقّب، فإن كل هذا مجتمِعاً يحيل إلى فعل الخرق بالمعنى الذي يطرحه جورج باتاي، وحين يحضر اسم هذا الرجل تصاحبه مباشرة كلمة: الإيروسيّة. يقول باتاي : «ذلك أن ميدان الإيروسية هو، أساساً ميدان العنف، ميدان الخرق والانتهاك». لم يشر باتاي في الإيروسيات التي أوردها (الجسد-القلب-المقدس) إلى إيروسية المكتوب، التي تتمثّل بشكل منفصل بالمسودّة. تتلاقح الحياة والموت داخل المسودّة؛ بين ما سيُقرر بقاؤه، وحذفه، ما سيقال وما سيُسكت عنه... الموت يرتع كعنصرٍ أساسيّ فيها كالسرطانات الحميدة. ولا حياة إلا مع الموت، تؤكد المسودة مع باتاي. هل لهذا نستطيع وصف أفعالنا في حياتنا الواقعية الراهنة، أنّها مجرد مسودّات؟ عنف وفوضى ونقص في كل شيء وغياب للترتيب، وحميّات متفلّتة دون وازع أخلاقي أو أياً يكن. حين تدقّق النظرَ في القمامة المتراكمة في كل مكانٍ تقريباً، ألا ترى فيها الصالح والطالح من كل شيء، ومن كل نوع: بقايا ثياب وطعام ونفايات، وأحلام، الكثير من الأحلام والآمال والعمر الضائع! أضحت حياتنا هنا مسودّات لا سبيل إلى تحريرها، قائمة بشكل لا هي تصلُح عبر المراوحة في نفس المكان، ولا هي تستقلّ بذاتها خارج المكان بالهجرة، إذ إنك تبقى هامشاً يسعى إلى أن يكون متناً بنفسه، والنقص لا يكتمل في الاغتراب بشكليه هذين. الأوضاع الاقتصادية والمعيشية والسياسية والثقافية: مسودات، معنى مرجَّأ ومؤجَّل إلى أجل غير مسمّى.
عزيزي القارئ، قد يبدو لك أنني كررت كثيراً كلمة مسودّة، وتضاربت مع أفكاري في سبيل إخراج النص، لكن أعتقد أنني وضّحت لك منذ البداية أنها موضوعي الأساسي وهوية هذا النصّ أيضاً، فهو مسودّة، وربّما تتعجّب مما سأقوله لك، ألم تلاحظ بعد كلِّ هذا أن الإنسان، ونحن الذين على هذه البقعة من الأرض بالذات: مسودّات نحن أيها القارئ، والكاتبٌ بطبيعة الحال هو أيضاً: مسودّة!