فيما يتركز الحديث عن تكيّف المجتمع مع الأزمة، تشير تقديرات تقرير التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC) إلى أن أكثر من 1.98 مليون مقيم في لبنان يعانون انعداماً في الأمن الغذائي، أي أكثر من ثلث المقيمين. وهذا يعني أن قسماً كبيراً من الطبقة الوسطى سُحق تحت أعباء الأزمة وتآكل المداخيل والثروة، وأن طبقات المجتمع تتجمّع أكثر فأكثر في طبقتين إحداهما قادرة على التعايش مع الأزمة بشكل شبه طبيعي، والثانية تعاني من مخاطر عالية على الأمن الغذائي. هذه الأخيرة هي أسوأ أنواع المخاطر مقارنة مع سائر الحاجات الأساسية للأفراد، كالنقل والسكن والطاقة والصحة والتعليم وغيرها. فمعاناة 37% من المقيمين (باعتبار أن عدد المقيمين يبلغ 5.8 مليون) هي بمثابة إنذار بأن نتائج الأزمة أصبحت كارثية على المدى المتوسط والبعيد، علماً بأن مناطق الأطراف والأرياف هي الأكثر تضرراً مثل عكار وبعلبك والهرمل والمنية الضنية حيث تتخطّى نسبة السكان الذين يعيشون أزمة في الأمن الغذائي 50%، حتى أنها تبلغ في عكار 55%.
المصدر: التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي | أنقر على الرسم البياني لتكبيره

استمرار هذه الأوضاع، مع عدم وجود أي طروحات جديّة، سواء من الحكومة أو من المصرف المركزي، لمواجهة ما أصاب الاقتصاد اللبناني، هو مؤشر على أن انعدام الأمن الغذائي قابل للزيادة والانتشار قريباً. وبحسب تقرير (IPC)، فإن عدد الذين يعانون من أزمة غذائية سيرتفع من 1.98 مليون شخص إلى نحو 2.26 مليون بين شهرَي كانون الثاني ونيسان 2023، أي 42% من السكّان. يفترض التقرير أن سعر الصرف سيكون قد بلغ 50 ألف ليرة لكل دولار بحلول شباط المقبل، وأن مؤشّر الأسعار الاستهلاكية سيرتفع بنسبة 50% بحلول شهر نيسان. لكن هذه الافتراضات قد تكون محافظة، علماً بأن مصرف لبنان، بقيادة حاكمه، قد ضخّ في السّوق في الأشهر الماضية تريليونات الليرات التي أضيفت إلى الكتلة النقدية في التداول، حتى بلغت أخيراً في نهاية السنة الماضية نحو 80 تريليون ليرة.
ماذا يعني ذلك؟ منذ بداية الأزمة، كان واضحاً أن الترابط بين الكتلة النقدية في التداول وسعر صرف الدولار في السوق الموازية وطيد جداً. لذا، من الطبيعي أن ارتفاع الكتلة النقدية إلى 80 تريليون ليرة، أي بعدما أصبحت نحو ضعف ما كانت عليه في أيلول الماضي، ستدفع سعر صرف الدولار إلى مستويات قياسية وهو ما ينعكس مباشرة على أسعار السلع والخدمات الأساسية ومنها الغذاء المسعّر بالدولار النقدي، وبالتالي ستزداد أعباء الأمن الغذائي على المقيمين.
العوامل التي دفعت وضع الأمن الغذائي إلى هذه الحالة واضحة. أهمّها انخفاض القدرة الشرائية لدى الأسر والأفراد المقيمين في لبنان، بعد تدهور قيمة العملة بشكل كبير. هذا الأمر تسبب بارتفاع أسعار السلع الغذائية التي شهدت منذ عام 2019 حتى شهر تشرين الثاني الماضي ارتفاعاً بنسبة 6483%. في المقابل فإن الأزمة الاقتصادية التي تمثّلت بانكماش الناتج المحلّي من أكثر من 51 مليار دولار إلى 14 ملياراً (هذا الرقم بحسب تقرير للبنك الدولي، إلا أن الأخير عدّل تقديراته وخفّض سعر الصرف وأشياء أخرى ليصبح الناتج المقدر 23.3 مليار دولار) أدّت إلى إقفال جزء كبير من المؤسّسات التي كانت توفّر فرص عمل للقوى العاملة المقيمة. انعكس ذلك ارتفاعاً في معدل البطالة من نحو 11% قبل بداية الأزمة إلى نحو 30% في عام 2022. فقدان هذه الوظائف يعني أن عدداً كبيراً من الأسر قد فقد مصدر دخله، ما يزيد من احتمالات وقوعهم في أزمة أمن غذائي.
المناطق الأكثر تضرراً بانعدام الأمن الغذائي هي، بطبيعة الحال، مناطق الأطراف. هذه المناطق المنسية من الدّولة، والتي لم تحظَ باهتمام الحكومات المتعاقبة، وقفت في وجه الأزمة وحيدة من دون أي مساعدة. في حين كانت الفوارق بين هذه المناطق ومناطق الداخل كبيرة، بسبب تركّز رأس المال في هذه الأخيرة، خصوصاً في العاصمة، أتت الأزمة لتوسّع الهوة وتضع الأطراف في أوضاع سيئة.
لا يمكن الحديث عن استقرار الأمن الغذائي في البلد من دون معالجة أصل المشكلة. من انهيار سعر الصرف إلى فقدان الوظائف إلى ارتفاع الأسعار. كل هذه الأمور هي مظاهر للمشكلة البنيوية التي يعاني منها الاقتصاد اللبناني. وسياسات الترقيع التي اعتمدها أصحاب القرار في السنوات الثلاث الماضية، لن توقف التدهور في وضع الأمن الغذائي في البلد. مع مرور الوقت، ستتسع قاعدة الطبقة المسحوقة، وستُعاني هذه الطبقة ممّا هو أسوأ من انعدام الأمن الغذائي، في حين يُروّج أن التكيّف مع الأزمة أصبح واقعاً.