غصباً عن إرادتهم، تحوّل قسم كبير من المقيمين في لبنان إلى «مضاربجيّة». حاكم مصرف لبنان رياض سلامة حوّلهم بفعل تعاميمه. فِعلَتُه هذه، منحتهم دخلاً إضافياً أسهم في تثبيت ظرفيّ وغير متوازن في سعر الصرف. أصلاً، هذه الآلية لم تكن لتنجح لو أنها متوازنة، لأن الدخل الإضافي متأتٍّ من فعل المضاربة على هوامش الأسعار، بين سعر صرف الليرة مقابل صيرفة، ومقابل سعر السوق الفعلية. وهذه الآلية عوّضت جزءاً بسيطاً من خسائر القدرة الشرائية، فيما منحت مصرف لبنان مزيداً من الوقت. هذا الوقت الإضافي مموّل بطريقتين: الاحتياطات بالعملات الأجنبية، شراء الدولارات من السوق. الأولى تستنزف الاحتياطات التي تعدّ الذخيرة الأساسية لأي عملية إنقاذية يكون فيها الاقتصاد والمجتمع، أولوية. والثانية، هي عملية تكتيكية يمارسها مصرف لبنان بأموال لا وجود لها، وليس في الاقتصاد ما يغطّيها. إنها عمليات وهمية بالكامل.
المصدر: البنك الدولي

يأتي الوقت الإضافي الذي يشتريه مصرف لبنان، عبر استنزاف احتياطاته، أو خلق كتل نقدية وهمية من الليرات، بثمن هائل يتكبّده المقيمون فوق أثمان مؤجّلة الدفع. فحتى الآن، لم نسدّد بعد فواتير الأزمة بمراحلها الأولى. فالخسائر في القطاع المالي تزداد بدلاً من أن تتقلّص، لا بل يُعاد توزيعها لتحميل المقيمين أعباء إطفائها بدلاً من تحديد أولويات اجتماعية ترسم طريقاً واضحة لعملية الإطفاء ومن يتحمّلها، وبأي هدف. وبالتزامن، ارتفعت الأسعار في عامَي 2020 و2021 بنسبة 697%. في تلك الفترة لم يتم تعويض خسائر القدرة الشرائية، بل واصلت قوى السلطة شراء الوقت حتى سجّلت الأسعار موجة تضخم جديدة راكمت بموجبها ارتفاعاً إلى 1402% مقارنة مع مطلع عام 2019. في المقابل، مُنحت الأجور تعويضاً زهيداً في 2022؛ الأجر الوسطي زاد 2.3 ضعف مقابل ارتفاع الأسعار 14 ضعفاً.
الخسائر في ودائع الليرة لم تنل أي تعويض. أما الخسائر الأكثر حراجة، فهي تكمن في الهجرة، ونوعية الخدمات العامة والخاصة... كلها مسائل لم يتم التعامل معها من الألف إلى الياء. وليس واضحاً أن السلطة تريد أن تتعامل معها، لا من باب العلاقة مع صندوق النقد الدولي، ولا من باب الحلّ الداخلي. فالحلّ الوحيد الذي تراه السلطة هو تذويب هذه الخسائر في القدرة الشرائية، وهو ما يمارس فعلياً اليوم من خلال تعاميم مصرف لبنان.
رغم ذلك، المقيمون في لبنان ليسوا مكتئبين. يتماهون مع جلاديهم بطريقة غريبة. كأنهم مصابون بمتلازمة «ستوكهولم». ليس فقط عوارض تعاطف الضحية مع جلادها، لا بل انحيازها إليه. لكن من أجل ماذا؟ الإجابة لا تكمن في سلوك الناس المغتبطين إلى حد ما، بأفعال المضاربة والتربّح السهل والسريع، بل في أن جزءاً مهماً من مفاعيل الأزمة يتم تأجيلها، كالعادة، من خلال «سعدنات» ينفذها مصرف لبنان باسم قوى السلطة ونيابة عنها. ما يقوم به، هو تحديث أرضية للموجة الجديدة المقبلة من الأزمة. هذه التحضيرات هي الوسيلة لدفن أو إخفاء الخسائر السابقة، أو إخراجها من الوعي الجماعي. فالسلطة، لم تنفّذ أي عمليات فعلية لامتصاص الصدمة التي خلقها انهيار النموذج عام 2019، وبعد الانهيار لم يعد لديها الأدوات للامتصاص، لكنها تظهر قدرة مريبة على شراء الوقت. لكن ماذا سنفعل عندما يتبيّن أن النموذج ليس قادراً على تغطية عودته إلى الحياة؟ بشكل أوضح: ماذا سنفعل عندما تفشل إدارة التدفقات النقدية بصيغتها الراهنة، عن تغطية النفقات المحلية؟ ماذا سنفعل عندما يتوقف مصرف لبنان عن دعم سعر الصرف بالطريقة التي تخنق فرص العمل في مجال «المضاربة»؟ في الواقع، بدأت المؤشرات تظهر منحى سلبي مخالف للاطمئنان النسبي السائد حالياً. عجز الحساب الجاري عاد إلى مستويات مرتفعة ويقدّر البنك الدولي أنه سيبلغ 22.9% في نهاية هذه السنة مقارنة مع 9.3% في 2020. يتزامن ذلك، مع قفزة كبيرة في العجز التجاري إلى 31.9% من الناتج المحلي. فرغم انكماش الناتج إلى 21.3 مليار دولار وفق التوقعات الأحدث، إلا أن هذا العجز هو الأعلى في السنوات العشرة الأخيرة، وهو مرتفع كثيراً عن مستويات ما قبل الأزمة. الاستيراد بلغ مستوى مذهب مسجلاً 79.9% من الناتج وهو مؤشر مهم على خروج الدولارات. ورغم أن صافي تحويلات المغتربين ما زال ينمو ويسجّل فائضاً، إلا أن التدفقات ليست كافية لسداد الحاجات.