كان قطاع التعليم في لبنان واحداً من قطاعات محدودة «ناجحة» وتدرّ الأرباح السهلة والسريعة المموّلة بالمال العام بشكل أساسي. فإلى جانب القطاعين المصرفي والاستشفائي، يمكن تصنيفه ثالث القطاعات التي تحصل على تمويل وافر من الخزينة. عام 2020 وصل التمويل من المال العام إلى 1.5 مليار دولار مقارنة مع 1.39 مليار دولار عام 2017. وكان الإنفاق على التلميذ الواحد يصل إلى 1600 دولار سنوياً في كل المدارس (معدل كل المدارس الرسمية والخاصة). بهذه الوضعية كان قطاع التعليم جاذباً للاستثمارات الباحثة عن ربحية مرتفعة والتي يمكن زيادتها عبر طرق التفافية واسعة مثل تسجيل المدارس كمؤسّسات لا تبغى الربح وتهريب الأرباح عبر نفقات وهمية... إنما اليوم فرض الانهيار تعديلات واسعة في بنية التمويل، وأصبحت كلفة التشغيل باهظة جداً، ومخاطرها مرتفعة قياساً على المردود التعليمي والمردود المالي أيضاً.في الواقع، بدأت تظهر الأزمة في قطاع التعليم قبل سنوات من الانهيار. بحسب البنك الدولي، انخفضت نسبة التسجيل في المدارس بين عامَي 2011 و2018 من 93% إلى 89%. ومنذ عام 2018، لوحظ أن هناك هجرة للأساتذة، إذ تبيّن أيضاً أن نحو 10 آلاف مدرّس ترك هذه المهنة، كما أقفلت 198 مدرسة خاصة و38 مدرسة رسمية ما انعكس سلباً على نحو 27 ألف تلميذ في المرحلة ما قبل الابتدائية، ونحو 8 آلاف تلميذ في المرحلة الابتدائية.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

تمويل التعليم في لبنان كان يعتمد بشكل أساسي على المال العام. في عام 2020 خصّصت الخزينة اللبنانية نحو 1.48 مليار دولار للتعليم عبر ثلاث قنوات: المدارس الرسمية التي كانت تدعم تعليم 46% من الطلّاب، بدلات التعليم لموظّفي الدولة وتمثّل 11.5% من مجموع الإنفاق على التعليم، والإنفاق على المدارس الخاصّة المجانيّة. لكن الأزمة نقلت هذه الكلفة إلى عاتق الأسر. إذ إنه بحسب البنك الدولي، ولغاية عام 2022، يتوقع أن تتقلّص موازنة التعليم العامة بنسبة 45% عام 2021، وبنسبة 180% في 2022. هذا الأمر نقل القسم الأكبر من الأعباء التي كانت تتحملها الدولة، إلى ميزانيات الأسر المثقلة أيضاً بأعباء تدفعها إلى ترتيب أولوياتها بشكل يكون فيها الاستمرار على قيد الحياة والإنفاق على الغذاء هو الأساس.
ففي المقابل، قرّرت المدارس أن تعيد هيكلة بنيتها المالية. فلجأت إلى ما يسمى دولرة الأقساط ضمن أولويات استعادة مستويات الربحية السابقة، وتمويل النفقات التشغيلية. هكذا بدأت تبرز أكثر ظاهرة الانتقال من المدارس الخاصة إلى المدارس الرسمية، لكن في ظل الوضع المأساوي الذي تعيشه الأسر، سجّل انخفاضاً في عدد المسجلين في المدارس الرسمية للعام الدارسي 2021/2022 بنسبة 12% وفق أرقام البنك الدولي. إنما بسبب التضخّم الذي شهده قطاع التعليم في السنوات الماضية، وتقلّص كعكة التمويل حالياً، ولا سيما التمويل من المال العام، ارتفعت المنافسة ودفعت المدارس إلى الإقفال، إذ انتقل القطاع من أرباح مضمونة إلى أكلاف تشغيلية باهظة.
المشكلة أنّ دولرة الأقساط، تنفذ بطريقة استنسابية، أي في غياب أي تدخّل مركزي يحمي الأسر من الأعباء. وهذه الحماية لا يجب أن تقتصر على الأسر، بل على الأساتذة أيضاً، من أجل الحفاظ على مستويات التعليم، ومنع هجرة أصحاب الخبرة في هذا المجال. لكن المشكلة هنا أن أصحاب المدارس، سواء كانوا إرساليات أجنبية تزعم أنها لا تبغي الربح، أم كانت مملوكة من جمعيات محلية وأفراد، يفكرون بعقل تقليدي يتعامل مع الأزمة بأدوات كلاسيكية خارج الشفافية والرقابة. فالرقابة على موازنات المدارس ما زالت لا مركزية تبدأ بلجان الأهل الذي يسجّل أن غالبيتها «يبصم على العمياني»، ورقابة مركزية غائبة في وزارة التربية. لذا، ليس واضحاً إذا كان أصحاب المدارس قد «دولروا» الرواتب والأجور للأساتذة، في موازاة دولرة الأقساط أيضاً. لكن هناك انطباع عام، بأن هذا الأمر لم يحصل، وإذا حصل فإنه ليس منتشراً على نطاق واسع، وأنّ دولرة الرواتب كانت بنسب ضئيلة جداً لا تكفي لتعويض التآكل في رواتب الأساتذة، ولا تتناسب مع ما حصل من دولرة للأقساط بشكل شبه كامل.
هذه النتائج في قطاع التعليم ليست محصورة بالمدارس، إنما بالجامعات أيضاً. فالجامعة اللبنانية، وهي الأكثر أهمية في هذا المجال، كانت تعتمد في موازنتها بنسبة 94% على الخزينة اللبنانية، وهذا الأمر كان له نتائج قاسية على قدرتها على الاستمرار ومواجهة التحديات الهائلة التي فرضها الانهيار على قطاع بهذا الحجم. أصلاً كانت هذه الجامعة «تُقتل» بسم بطيء، من أجل تعزيز وجود الجامعات الخاصة. لكن دورها اليوم، بات له أهمية قصوى بسبب انهيار القدرات الشرائية للأسر وحاجتها الماسة إلى تعليم شبه مجاني في الجامعة اللبنانية.