كيف تعاطت النخبة السياسية، وخصوصاً المؤسسات الدستورية، مع الانهيار، وما هو البديل التنموي الذي ينتشل لبنان مما هو فيه؟ يتضمّن هذا البديل تثبيت سعر الصرف على نحو يضمن معيشة لائقة للبنانيين، وإنشاء جهاز للرقابة على القطع، والشروع ببرنامج حكومي للاستثمار في البنى التحتية وإنتاج السلع التكنولوجية.
(حسن بليبل ــ لبنان

1. المؤسّسات الدستورية والقوى السياسيّة
تجري الحياة السياسية في دول كلبنان في عالم لا علاقة له بالأفكار الاقتصادية، ووسط قناعة لدى النخبة بأن لا حاجة لها لهذه الأفكار. لا يحتاج السياسي إلى أن تكون لديه أفكار ليعمل في السياسة، بل قد يجد أن البرنامج هو بحدّ ذاته نوع من ورطة بالنسبة إليه. وهو يتوجّس من النقاشات الفكرية ويبتعد عنها كما لو كانت الوباء بحدّ ذاته. أما الذين يهتمون بامتلاك أفكار من هذا النوع، فينبغي أن يفعلوا شيئاً آخر.
ولأن النيو-ليبرالية كانت التكيّف الوحيد من قبل البلدان النامية، المقبول من القوى الدولية، فكان يمكن أن نرى سياسيي هذه البلدان الذين يتواجهون بعضهم مع بعض في الداخل بأشرس الطرق يتبنّون الأطروحات النيو-ليبرالية ذاتها في ميدان الإدارة الاقتصادية. وذلك لنيل رضى هذا الخارج. وإذا وجد الباحثون المحليّون أنفسهم كمن يصرخ وحيداً في البريّة، فليس لأن ما يقولونه غير جدير بالاهتمام، بل لأن السياسيين يحتاجون فقط إلى رضى الخارج ويتبنّون أي أفكار أو مقاربات يعتمدها هذا الأخير، وبصرف النظر عما هي.
ويؤكد الباحثون البنيويون أنه إذا فُرِض على نخب البلدان النامية أن تختار بين سياسات لمصلحة الجمهور المحلّي وسياسات مناقضة لمصالح هذا الأخير، لكنها تُرضي مسؤولي الخارج، فإن هذه النخب تضحّي على الدوام بمصالح مواطنيها إرضاءً للخارج (هينبوش، 2011: 223-225).

825%

هي نسبة التضخّم التي شهدها لبنان منذ بداية عام 2019 بعدما شهدت الليرة اللبنانية تراجعاً بنسبة 95% في قيمتها


ولم يطلب رئيس الجمهورية ميشال عون فتح تحقيق قضائي بعد تصريحات حاكم مصرف لبنان في أيلول 2017 بشأن تعرض المصرف لمؤامرة لافتعال موجة هروب من الليرة آنذاك. ولم يرَ أن عليه تحذير اللبنانيين مما يبيّت لهم والتحضّر لتطوّر من هذا النوع. ولم يلقِ العهد «الإصلاحي» الجديد عام 2018 بالاً إلى ما قد يقترحه اللبنانيون، بل سارع إلى انتداب مؤسسة أجنبية لكي تعدّ برنامجاً اقتصادياً للبنان وبكلفة هائلة. ولجأ إلى حجّة عدم وجود صلاحيات له في عزّ الانهيار. وهو يرأس جلسات مجلس الوزراء ويستطيع اقتراح ما يشاء. وقد امتنع عن إحاطة الرئاسة بمختصّين ومثقفين من أعلى المستويات. وعجز بالتالي عن اقتراح أي شيء يمكّن اللبنانيين من استعادة ثقتهم ببلادهم ويحضّهم على عدم الذهاب إلى هجرة جماعية. ووافق أن يرتفع سعر الدولار من دون توقّف في سوق بيروت مع الآثار الكارثية لذلك من دون أن يطالب بإجراء تحقيق حول الفاعلين مقدّمة للطلب إلى القضاء أن يلاحق هؤلاء. ووافق على الوقوف متفرجاً على تجويع الشعب بهذه الطريقة. وحين ارتفعت أسعار الدولار بشكل جنوني في حزيران 2021، وقيل إن هناك أسباباً سياسية وراءها، أجابت رئاسة الجمهورية أن «الأجهزة المختصّة بدأت بتقييم الوضع» (ليبانون ديبايت، 28/ 6/ 2021).
ولم يكن لدى حكومة الرئيس حسان دياب خطّة للخروج من الأزمة. ولم تكن تعلم أيّ دولار جمركي يجب اعتماده، أو أكلاف تصحيح الأجور، أو كلفة البطاقة التمويلية، أو كلفة الدعم. ورفض حاكم مصرف لبنان إعطاءها تفاصيل بالموجودات الأجنبية... (الأخبار، 23/8/2021). وعلى مدى سنوات طويلة، كان الذين يتوّلون إعداد الملفات التي تناقشها المجالس الوزارية المتلاحقة هم موظفون تابعون لـ«برنامج الأمم المتحدة الإنمائي». وهم يعملون كمستشارين ويذهبون ويجيئون من دون أن يكون هناك في رئاسة المجلس مِلاك إداري ثابت (داغر، الأخبار، 26/4/2021). واجتمعت «لجنة المؤشّر» في خريف 2021 بعد توقف عن الاجتماع دام 5 سنوات وليس بيدها أي مستند يمكن الارتكاز عليه لمناقشة موضوع الزيادة على الرواتب. وكانت تفتقر إلى أرقام العمال والأجراء في القطاع الخاص. وطُلِب من باحث يعمل في مؤسسة خاصة هي «الدولية للمعلومات» أن يوفر هذه المعلومات لها (فرفور، الأخبار، 4/11/2021). وحين اندلعت حرائق هائلة في أحراج عكار ولم يكن هناك جهوزية للتعامل معها، تبيّن أن هناك 17 مركزاً للدفاع المدني و47 عنصراً معظمهم غير قادرين على تولي مهمّات على الأرض لأنهم متقدّمون في السن. وتبيّن أن هناك 5 مراكز للأحراج يقتصر عدد عناصرها على سبعة (حمود، الأخبار، 30/7/2021). وحين اتُّخذ القرار بإيصال الغاز من مصر والكهرباء من الأردن، تبيّن أن ليس لدى لبنان موظفون يمكن تكليفهم بإصلاح الأعطال على شبكات التوصيل (الفرزلي، الأخبار، 10/9/2021).
ولقد جعل «الطائف» استقالة رئيس الحكومة بمثابة استقالة لها (قباني، 2021: 596). ويكفي أن يقرن رئيسها التهديد بالاستقالة، بالفعل، ليذهب الوزراء إلى بيوتهم. وحين يُسأل هؤلاء عن الملفات التي سيناقشونها، لا يجدون من يهتم بتقديم الجواب لهم. وقد اشتكى أعضاء مجلس الوزراء من أن مشروع موازنة 2022 أُقرّ من دون التصويت عليه من قبلهم (الأخبار، 12/2/2022).
وتحوّل النظام البرلماني إلى نظام مجلسي (régime d’Assemblée) على مدى السنوات الثلاثين الماضية (قباني: 578). وذلك لجهة عدم وجود فصل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية أو محاسبة من قبل الواحدة للأخرى. وتولى أعضاء مجلس النواب مهمّات السلطة التنفيذية واحتلّوا المواقع الوزارية. أي أمّن التمثيل السياسي الوسيلة للسطو على الموارد العامة.

النخب تضحّي على الدوام بمصالح مواطنيها إرضاءً للخارج


ونحا «تقاسم السلطة» بعد 2006 إلى اعتماد أسوأ ما في هذه الأنظمة، أي حقّ الفيتو وشدّ الحبال (داغر، الأخبار، 13/5/2021). وأشرف رئيس المجلس على تغيير نظام «تقاسم السلطة» القائم لجهة ربط السلطات وليس الصلاحيات فقط بالطوائف (ناصيف، الأخبار، 12/4/2022) وذلك تحت شعار الميثاقية. وأصبحت اجتماعات مجلس الوزراء واجتماعات مجلس النواب والانتخابات النيابية والاستشارات لتشكيل الوزارات عرضة للمقاطعة والتعطيل بحجة عدم استيفاء هذا الشرط. وتم تعطيل الانتخابات النيابية نحو خمس سنوات لأنه كان يفترض أن يسبقها انتخاب رئيس للجمهورية. وتعطّل مجلس الوزراء مرّات عدّة لأن طرفاً ما كان يرى أنه مغبون لسبب ما. وأسهم في ترسّخ هذا الوضع الضخّ من الخارج، أي تعبئة أطراف النخبة من قبل القوى الخارجية للذهاب في اتجاه الحرب الأهلية المذهبية. وكانت آخر تجارب الفيتو أو المقاطعة تلك التي جعلت «الثنائي الشيعي» في حكومة الرئيس ميقاتي يتوقف عن حضور اجتماعات مجلس الوزراء ثلاثة أشهر كاملة من منتصف تشرين الأول 2021 إلى منتصف كانون الأول 2022.
وقد وقف مجلس النواب موقف المتفرّج في كل ما يحصل منذ نشوب الأزمة. ولم يحرّك ساكناً عند إسقاط «خطة التعافي» الأولى في حزيران 2020. ورفض في آب 2021 قوننة اللجوء إلى الاحتياطي بالدولار في المصرف المركزي لمتابعة سياسة دعم أسعار المحروقات. وامتنع عن إقرار قانون «الكابيتال كونترول» على مدى سنتين ونصف سنة لكي تتمكن المصارف من ممارسة الاستنسابية في ما يخصّ سحب الودائع وتحويلها إلى الخارج.


ولا يمكن تصنيف أي من القوى السياسية بالاستناد إلى تيارات معروفة، إن كانت ليبرالية أو قوى تغيير من أي نوع. وهي تعمل «على القطعة» وتتحكّم مصالحها الآنية بمواقفها مهما كانت (عبود، post 180، 15/3/2021). وقد جعل القصور البرنامجي والسياسي البعض منها يعتمدون على حلفائهم كوسيلة وحيدة لتعويم أنفسهم في الساحة المحلية. وأظهرت حقبة آب 2020 – آب 2021 مسخرة السيادة في بلد انتظر رئيسه المكلّف سنة كاملة موافقة دولة خليجية لتشكيل حكومة من دون نتيجة. وثابر فصيل ثالث على تقديم تشريعات لإقرارها في مجلس النواب تضرب صلاحيات الإدارة العامة، كما في حالة إدارة المناقصات. وبدا أفراده على امتداد الثلاثين سنة الماضية كأنهم معنيّون بهدم المؤسسات العامة الواحدة بعد الأخرى. وكأن لديهم حقداً دفيناً على فكرة الدولة. واستمرّ نواب ووزراء فصيل رابع يتفرّجون على ما يجري طوال عقدين، من دون أن يتنبّهوا إلى أن عليهم مسؤولية أخلاقية بأن يجترحوا حلولاً لشعب يتحمّل كل هذه الأعباء. وبدت القوى التي تأخذ بمقولة «الاحتلال الإيراني» أنها منخرطة في «الحرب العربية الباردة» التي نشبت مجدداً بعد الغزو الأميركي للعراق وبلغت مرحلة أشدّ عنفاً وتدميراً بعد 2011 (هينبوش، 2019)، وبدت كأنها غير معنيّة بالإجابة عن أسئلة الداخل.

2. تثبيت سعر الصرف على نحو يضمن معيشة لائقة للبنانيين
تجربة التعويم
وعلى مدى السنتين الأوليين بعد انطلاق الانهيار المالي في أيلول 2019، كان موقف النخبة السياسية ممثّلة بأعضاء البرلمان والمصرف المركزي والمصارف هو شراء الوقت وإنكار حصول الأزمة كما سبقت الإشارة. وبقي ممثلو المصارف ينكرون على الدوام حصول أزمة مالية.
ولم يتدخّل المصرف المركزي للجم ارتفاعات سعر الدولار على امتداد السنة الأولى من الانهيار. أي أنه بقي هو الآخر يتفرّج على لعبة العرض والطلب في سوق القطع التي تحدّد سعر الصرف. وكان المتابعون لهذا الموضوع يشيرون على الدوام إلى دور للتطبيقات على الهواتف في رفع هذا السعر. أي كان ثمة معرفة من قبل المسؤولين بأن هناك ممارسات إجرامية تنطلق من الخارج وتهدف إلى تعريض اللبنانيين للأذى.

9.75

مليار دولار هي قيمة العجز في الميزان التجاري في لبنان لعام 2021 ما يمثّل زيادة بنسبة 25% عن عجز عام 2020 حين بلغ 7.75 مليار دولار


وعيّن المتابعون مسؤولية مباشرة للمصرف المركزي في رفع سعر الدولار حين ارتفع هذا السعر إلى 8500 ل.ل./د في تموز 2020. ورأوا أن مشترياته الكثيفة من السوق هي التي رفعت هذا السعر. واتُّهِمَت تعاميمه التي فرضت على المصارف تأمين ما يعادل 3% من ودائعها بالدولار تودع لدى المصارف المراسلة برفع سعر الدولار إلى 12250 ل.ل./د في آذار 2021. وقد اشترت المصارف هذه الدولارات من السوق. واتُّهم المصرف المركزي مجدداً بالتسبّب برفع سعر الدولار حين اشترى كميات كبيرة من الدولار في حزيران وتموز 2021، مستفيداً آنذاك من توجّه الرئيس الحريري للامتناع عن تشكيل حكومة. وبلغ سعره 23300 ل.ل./د في منتصف تموز. ثم رأت أنّ مشتريات المحروقات، بدءاً من صيف 2021 بعد رفع الدعم، مسؤولة عن الارتفاعات في سعر الدولار بعد ذلك التاريخ. وأصبحت بعد ذلك تدخلات المصرف المركزي للجم ارتفاعات الدولار من خلال التحكّم بالسيولة النقدية بالليرة مثار تندّر وسخرية. وهو نفسه كان قد رفع هذه الكتلة ثمانية أضعاف بعد انطلاق الأزمة.
وبدت إدارة مصرف لبنان لسعر الصرف مسألة بحت تقنية وجزءاً من إدارة الأزمة. وهي إدارة لها هدف واحد هو تصفير خسائر المصارف ومصرف لبنان. وذلك بانتظار عودة النموذج القائم واعتماده على التدفقات المالية الخارجية. وهي التي يراهن الأفرقاء الداخليون عليها. وتبدو هذه التدفقات منّة من الخارج ومكافأة ينالها لبنان مقابل تموضعه الإقليمي والدولي. ويتطلّب استمرارها الثبات على مواقف في السياسة الخارجية للبنان لا تعرّض هذه التدفقات للخطر. أي أن شروط التعافي هي وفق هذا المنطق شروط سياسية.

أهمية تثبيت سعر الصرف مجدداً
وترى المقاربة النيو-ليبرالية أن سعر الصرف المعوّم بالكامل هو أفضل الخيارات (شانغ وغرابل، 2004: 166). وإذا تعذّر ذلك فهي تقترح اعتماد نظام «مجلس النقد» الذي يقوم على تثبيت سعر الصرف والتشدّد في عدم خلق العملة. أي أنها تعطي الأفضلية لخيارين متطرّفين لا ينجم عنهما سوى الكوارث. أما التجربة التاريخية بعد الحرب العالمية الثانية وقبل سيطرة النيو-ليبرالية على العالم، فقد قامت على تثبيت سعر الصرف. وهو ما سمح لمختلف دول العالم الصناعية منها والنامية بأن تحقّق الاستقرار المالي وتحقق نموّها ضمن هذا الإطار. ويرى الباحثون أن الخيار الأفضل للبلدان النامية على وجه الخصوص هو «أسعار صرف مثبّتة قابلة للتعديل»، علماً بأن اعتماد هذا الخيار يتطلّب ممارسة رقابة على حركة الرساميل لحمايته (شانغ وغرابل: 179). وكانت بلدان آسيا التي نجت من الأزمة المالية الفادحة لعام 1997 هي التي منعت كل عمليات تحويل العملة المدرجة في حساب حركة الرساميل في ميزان المدفوعات. واستثنت من المنع عمليات الميزان الجاري، أي تلك المتعلقة بالاستيراد والتصدير وتحويل أرباح المستثمرين الأجانب (شانغ وغرابل: 171). أما لبنان فكان ضحية قرار طائش اتُّخِذ بعد الأزمة المالية العالمية في 2008 بقبول دخول 30 مليار دولار إلى القطاع المصرفي. ومثّل ذلك «تحريراً لحركة الرساميل كان له وقع الصدمة». والكارثة التي نعيشها منذ 2019 هي نتيجة ذلك الخطأ الفادح. ولم يطرح أحد من المسؤولين السياسيين فكرة أن سعر الصرف هو سعر استراتيجي يتحدّد في ضوئه مستوى معيشة اللبنانيين. ولم يرَ أحد منهم أن مسؤولية الدولة هي في تعيين سعر صرف يمنع الارتفاعات العشوائية لأسعار السلع ويحفظ القدرة الشرائية للمواطنين. ونسي الكلّ أن صندوق النقد الدولي كان قد طلب أثناء إعداد خطة حكومة الرئيس حسان دياب أن يُخفّض سعر الصرف إلى 3500 ل.ل./د فقط. ولم يسألوا لماذا أصبح هذا السعر 20 ألف ل.ل/د.

بدت إدارة مصرف لبنان لسعر الصرف بحت تقنية هدفها تصفير خسائر المصارف ومصرف لبنان


وقد أشارت «مذكرة التفاهم» الموقّعة مع الصندوق في نيسان 2022 إلى ضرورة اعتماد سعر صرف موحّد، لكنها لم تقل على أي مستوى. ولمَ لا تجري العودة إلى سعر صرف يساوي 3500 ل.ل./د طالما أن هذا كان مطلب الصندوق في الأساس، وأن المطالبة بالعودة إليه لا تنشئ مشكلة مع هذا الأخير؟ ولو تحمّل المثقفون، وبالأخص الاقتصاديون، منهم مسؤولياتهم وأصرّوا في بيانات وتحاليل يصدرونها مرّة بعد مرّة على تثبيت سعر الصرف على هذا النحو، لما بلغت الأمور هذه الدرجة من السوء.

3. إنشاء جهاز للرقابة على القطع
وينبغي التمييز بين الرقابة على حركة الرساميل أو ما يسمى «الكابيتال كونترول»، وبين الرقابة على القطع. وقد عُدّ الأول شرطاً لديمومة نظام قائم على تثبيت سعر الصرف. أما الرقابة على القطع فهي تقنين استخدام العملات الصعبة على أساس أولويات تتناول استيراد السلع والخدمات والعمليات الأخرى مع الخارج (كاكوليادس، 1990: 378-379). وإنشاء «جهاز حكومي للرقابة على القطع»، هو أول ما ينبغي عمله في ميدان إقامة الإدارة الحكومية التدخّلية. ولو توفّر للبنان جهاز من هذا النوع قبل 2019، لما كان عجز ميزان المدفوعات وصل إلى الأقاصي التي بلغها قبل الانهيار، ولما كان تسبّب بالكارثة التي نحن فيها.
ويمارس مصرف لبنان في عمله اليومي رقابة مباشرة على القطع، أي تمييزاً بين السلع تبعاً لأولويتها مقدّمة لتوفير التمويل لها. ولو لم تتّسم هذه الرقابة بهذا الاسم. وقد سبقت الإشارة إلى أن الرقابة على القطع هي ما يقترحه الصندوق ولو جاء ذلك من خلال قانون «الكابيتال كونترول». والمطلوب هو أن تنشأ إدارة مستقلّة عن مصرف لبنان تستخدم كل الأدوات التي وفّرتها التجربة التاريخية المعاصرة في الرقابة على القطع. ولأن فاتورة الاستيراد انخفضت وباتت غير بعيدة عن مستوى تحويلات العاملين في الخارج، فإن من شأن ذلك أن يحدّ من الطلب الإضافي على الدولار ويسهم في تثبيت سعر الصرف.
وتلجأ كل دول العالم إلى ممارسة تقنين لاستخدام العملات الأجنبية عندما تتعرّض لظروف استثنائية صعبة. وآخر الأمثلة هو تجربة روسيا الأخيرة لجهة التحضّر اقتصادياً لمواجهة استحقاق الدخول في حرب. وقد عمدت إلى:
(1) تثبيت سعر الصرف، من خلال التحكّم بآليّتَي العرض والطلب على العملة الوطنية والعملات الأجنبية. وتم تعيين قيمة كل وحدة من النقد الوطني بما يقابلها من الذهب، وتعزيز الطلب على العملة الوطنية من خلال فرضها كعملة تسديد مقابل مبيعات الغاز.
(2) ضبط الطلب على العملات الأجنبية من خلال إيقاف شرائها من السوق المحلية ووضع سقف للتحويلات إلى الخارج، وفرض حظر جزئي على الاستيراد والسياحة. وقد تم إيقاف السياحة إلى أوروبا.
(3) تعزيز عرض العملات الصعبة من خلال الطلب إلى المصدّرين بيع 80% من أرباح التصدير في السوق المحلية. وتقدّر إيرادات تصدير الطاقة بـ 292 مليار يورو في 2022.
(4) تقييد حركة رؤوس الأموال، ومنع سحب أرباح الأسهم. وتتراوح هذه الأرباح بين 150 مليار دولار و160 مليار دولار في السنة.
(5) دعم الاستثمار المنتج بتخصيص مبالغ هائلة لدعم الصناعة؛ كان آخرها مبلغ 80 مليار روبل (الأخبار، 9/4/2022). وقد ساعدتها العقوبات الأميركية المتلاحقة ضدّها منذ سنوات في تعزيز توجّهها لإقامة صناعات بديلة (هدسون، الأخبار، 28/3/2022). وقد تحسّن سعر الصرف مقابل الدولار واليورو منتقلاً من 150 روبلاً/د إلى 76 روبلاً/د.

4. تشريع برنامج حكومي للاستثمار في البنى التحتية وإنتاج السلع التكنولوجية
لم تُثر انتفاضة 17 تشرين الأول 2019 نقاشاً حول البديل التنموي وحول كيفية التصدي للأزمة الاقتصادية. واستهلك الأخذ والرد لتشكيل حكومة الرئيس دياب وقتاً طويلاً نسبياً.
ولم يثر نص مقتضب صدر في فترة الانتظار تلك تحت عنوان «برنامج اقتصادي برسم الحراك» أي نقاش (داغر، الأخبار، 9/12/2019). وقد اقترح آلية للرقابة على القطع لتقنين استخدام العملات الصعبة. وكان الأهم فيه هو اقتراح أن تُعدّ الحكومة موازنة حكومية للاستثمار يصار إلى تنفيذها على الفور. وذلك بالشروع بتنفيذ توسيع وصلة جونية – طبرجا من الأوتوستراد الساحلي كدليل على قدرتها على الفعل، والبدء بإقامة ثلاث مناطق صناعية عملاقة في محيط بيروت الكبرى لاستقبال المؤسسات الصناعية الجديدة التي ستعنى بإنتاج سلع تكنولوجية. وعنى البرنامج هذا إدارة الظهر بطريقة ما، للأزمة المالية القائمة وإيلاء البرنامج الاستثماري للدولة أولوية مطلقة.
لكن تنفيذ برنامج كهذا يقتضي إنشاء مؤسّسات حكومية جديدة كـ«المجلس الوطني للتخطيط المركزي» لتوجيه الإنفاق الحكومي الاستثماري في شقَّي البنى التحتية وإنتاج السلع التكنولوجية. وينبغي أن يلبّي إنشاء هذه المؤسّسات الحكومية الجديدة شروط بناء الإدارة العامة الحديثة. أي أن يجري ذلك بمعزل عن إرادة الزعماء وبحيث يتكوّن أفرادها من الذين نجحوا في مباريات وطنية يجريها مجلس جديد للخدمة المدنية. ولا أمل للبنان بأيّ مستقبل أفضل ما لم يصر إلى عزل الإدارة العامة عن الزعماء وتدخّلاتهم، وإلى تطهير هذه الإدارة من أزلامهم في المواقع الأساسية.

* المراجع:
Chacholiades Miltiades, International Economics, McGraw-Hill, 1990.
Chang Ha-Joon and llene Grabel, “Exchange Rate and Currency Policies”, in Chang and Grabel, Reclaiming Development: An Alternative Economic Policy Manual, London and New York, Zed Books, 2004, pp. 164-179.
Hinnebusch R, “The Sectarian Surge in the Middle East and the Dynamics of the Regional States-System”, Tidsskrift for Islamforskning, 13 (1), pp. 35-61, 2019.
Hinnebusch Raymond, “The Middle East in the world hierarchy: imperialism and resistance”, in: Journal of International Relations and Development, vol 14, n. 2, 2011, pp. 213-246.

"12 ساعة تغذية قبل نهاية السنة"، الأخبار، 27/ 10/ 2021.
"796 % تضخم الأسعار منذ 2019"، الأخبار، 6/ 4/ 2022.
"التحقيقات تتوسّع في أوروبا"، الأخبار، 14/ 4/ 2022.
"المنصات المسؤولة عن التلاعب بسعر الصرف"، الخنادق، 3/ 12/ 2021.
"الموازنة تفجّر علاقة ميقاتي مع حزب الله"، الأخبار، 12/ 2/ 2022.
"الناتج يتقلص والسكان يصبحون أكثر فقراً"، الأخبار، 7/ 3/ 2022
"اليوم بدأت الأزمة... ومقبلون على كارثة"، Beirut Observer، 20/ 10/ 2021.
"تضخم الأسعار التراكمي"، الأخبار، 17/ 1/ 2022.
"تضخم مرتفع خلال سنتين وتسعة أشهر"، الاخبار، 25/ 10/ 2021.
"روسيا تتجاوز الصدمة"، الأخبار، 9/ 4/ 2022.
"مخاوف تحرير أسعار البنزين"، الأخبار، 28/ 3/ 2022.
"مساعدة اجتماعية مقابل غلاء المعيشة"، الأخبار، 6/ 4/ 2022.
"من يرفع سعر الدولار؟"، ليبانون ديبايت، 28/ 6/ 2021.
"نعمة التحويلات ونقمة الهجرة"، الأخبار، 6/ 12/ 2021
"هل يقصد الصندوق تعميم الغموض حول لبنان"، الاخبار، 25/ 10/ 2021.
ألبر داغر، " الأزمة المالية في لبنان كأزمة توأم"، الأخبار، 6/ 10/ 2021.
ألبر داغر، "الجحيم في لبنان خلال 2021"، الأخبار، 26/ 11/ 2021.
ألبر داغر، "برنامج اقتصادي برسم الحراك"، الأخبار - ملحق رأس المال - 9/ 12 / 2019.
ألبر داغر، "بيان من أجل برنامج سياسي وإداري بديل"، الأخبار، 13/ 5/ 2021.
ألبر داغر، "دولة الزبائنية السياسية النهّابة: نموذج لبنان"، الأخبار- ملحق رأس المال، 26 / 4 / 2021.
ألبر داغر، «البرنامج الحكومي للإصلاح»، الأخبار، 17/ 6/ 2020.
إيلي الفرزلي، "لا كهرباء للفقراء"، الأخبار، 25/ 9/ 2021.
إيلي الفرزلي، "وقائع اجتماع عمّان"، الأخبار، 10/ 9/ 2021.
الجمهورية اللبنانية - رئاسة الوزراء، "النص الكامل لمذكرة التفاهم مع صندوق النقد الدولي"، الأخبار، 18 نيسان 2022، 15 صفحة.
الجمهورية اللبنانية - وزارة المالية، "تقرير حول مشروع قانون الموازنة العامة لعام 2022"، 38 صفحة، ٢٦ كانون الثاني ٢٠٢٢.Lebanon/Budget%202022.pdf
خالد أبو شقرا، "أسعار الشقق تراجعت إلى النصف"، نداء الوطن، 21/ 3/ 2022
خالد قباني، "نظام الحكم في لبنان: ديمقراطية تنافس أم توافق؟ دراسة تحليلية"، الفصل الثامن (569 - 655)، في: مجموعة مؤلفين، لبنان، دراسات في المجتمع والاقتصاد والثقافة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2021، 736 صفحة، اشراف خالد زيادة.
طارق عبود، "أكثريات لبنان الوهمية .. معارضات لبنان الرملية"، post 180، 15/ 3/ 2021.
عزة الحاج حسن، "ميقاتي بالعمرة والدولة بالجحيم: القطاع العام يتوقف عن العمل"، المدن، 29/ 4/ 2022.
عماد الشدياق، "لماذا ترفع المصارف سعر الدولار"، أساس ميديا، 6/ 1/ 2022.
فاتن الحاج، "بسام بدران: وضع الجامعة لم يعد يحتمل"، الأخبار، 17/ 3/ 2022.
ليا قزي، "سلامه يقترح سعرين رسميين للدولار"، الأخبار، 31/ 12/ 2021.
مايكل هدسون، "الامبراطورية الأميركية تدمّر ذاتياً"، الأخبار، 28/ 3/ 2022.
محمد وهبه" "المتلاعبون بسعر الصرف .."، الأخبار، 30/ 11/ 2021.
محمد وهبه، "الدولة ماشية عى العمياني"، الأخبار، 23/ 8/ 2021.
محمد وهبه، "المصارف تنوي الحجز على احتياطات الدولار"، الأخبار، 9/ 5/ 2022.
محمد وهبه، "الموازنة: سلخ القطاع العام..."، الأخبار، 21/ 1/ 2022.
محمد وهبه، "عناوين الاتفاق مع الصندوق"، الأخبار، 7/ 4/ 2022.
محمد وهبه، "ميقاتي بلا إنجازات"، الأخبار، 16/ 2/ 2022.
نجلة حمود، "حرائق عكار تفضح الدولة.."، الأخبار، 30/ 7/ 2021.
النشرة، 19/ 4/ 2022.
نقولا ناصيف، "من ميثاقية بري إلى ميثاقية حزب الله"، الأخبار، 12/ 4/ 2022.
هديل فرفور، "الهيئات الاقتصادية تهمّش لجنة المؤشر"، الأخبار، 4/ 11/ 2021.
وكالة رويترز، 2/ 2/ 2022.

* أستاذ جامعي