ليست وصفات صندوق النقد الدولي إلا عمليات محاسبيّة لإصلاح الأرقام التي تعكس وجود مشكلة ما تبقى جذورها موجودة. وبينما يُعدّ الصندوق أسهل طريق تتّبعه الحكومات في مواجهة أزماتها الاقتصادية والماليّة، لأنه يمنحها القدرة على الولوج مجدداً إلى الأسواق الماليّة للاستدانة والحصول على التمويل الأجنبي، تُعاني الشعوب من التبعات الطويلة الأمد للوصفات الجاهزة.
(محمود رفاعي ــ الأردن)

«الثقة» الدوليّة
بالنسبة للبلدان التي تمرّ بأزمات اقتصادية، غالباً ما يكون الهدف من اللجوء إلى صندوق النقد، هو الحصول على «صكّ براءة» بأنّها تسير على الطريق السليم، لتسهيل استدانتها من الأسواق المالية العالمية. ولا يهم إذا كانت تسير فعلاً على هذا الطريق، وما هي معايير سلامة خطّ سيرها، بل المهم أن يمنحها الصندوق ما يعادل «الإذن» للعودة إلى هذه الأسواق سواء بهدف الاستدانة أو اجتذاب رؤوس الأموال الأجنبية. وفي مقابل إصدار هذا الصكّ، يطلب الصندوق، تحسين بعض المؤشرات المالية تحت مسمّى الإصلاحات. فمثلاً، يطلب خفض العجز في الموازنة العامّة عبر اتخاذ إجراءات تقشّف تخفّض الإنفاق، مثل وقف كلّ أنواع الدعم، وتقليص حجم القطاع العام، وغير ذلك ممّا يسميه «إصلاحات». كما يطلب خفض العجز في الحسابات الخارجيّة، مثل الحساب الجاري وميزان المدفوعات (اللذان يعبّران عن صافي الأموال الأجنبية الداخلة والخارجة من البلد)، عبر تعويم سعر الصرف ما يؤدّي إلى ارتفاع الأسعار بالعملة المحلية وانخفاض الاستهلاك وبالتالي تقلّص الاستيراد.

بالأرقام


45
مليار دولار هو حجم القرض الأخير الذي منحه صندوق النقد الدولي للأرجنتين، وهو يوازي نحو 12% من الناتج الإجمالي الأرجنتيني ويأتي وسط تقديرات بأن يبلغ معدّل التضخّم في عام 2022 ما بين 38% و48%
4
مليارات دولار هو حجم الانخفاض في احتياطات العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي المصري ليبلغ 37 مليار دولار في نهاية آذار، أي بنسبة انخفاض تبلغ 10%


هذه الوصفات، هي مجرّد أدوات لتحسين الأرقام محاسبياً، أي على الورق، من دون الاهتمام بتحسينها بطرق مدروسة تهدف إلى تحقيق النمو الاقتصادي بشكل صحّي. فمثلاً لا يفرض الصندوق على الحكومات نُظماً ضريبية تصاعديّة لزيادة إيرادات الدولة وخفض العجز، ولا يفرض، أو حتى يقترح، سياسات تسهم في خفض العجز في الحسابات الخارجية عبر زيادة تدفقات العملات الأجنبية من خلال زيادة الصادرات. بل يكتفي بالحلول الأكثر قسوة لتصحيح الأرقام، وهي الأسهل تطبيقاً مثل زيادة الضرائب التنازليّة، التي تُصيب جميع فئات المجتمع بشكل متساوٍ، كضريبة القيمة المضافة، وخفض الاستيراد عبر تعويم أسعار الصرف وخلق ضريبة أخرى تنازلية، هي ضريبة التضخّم. علماً بأنّ هذه الحلول ليست مستدامة، وقد ثبت هذا الأمر في معظم حالات التعامل مع صندوق النقد، إذ غلبت ظاهرة حاجة الدول للعودة إلى الصندوق، مجدّداً، بعد تعثّرها.

غياب الحلول الاقتصادية
مقابل كلّ ذلك، لا يقدّم صندوق النقد حلولاً أو طروحات اقتصادية. علماً بأنّ الحلول الجذرية للأزمات المختلفة، سواء كانت أزمات ديون أو أزمات مصرفيّة أو أزمات في الحساب الجاري، أساسها اقتصادي. أي أنّ البلدان تحتاج إلى تحديد توجّهاتها الاقتصادية. فعلى سبيل المثال، تحتاج السياسة الإنتاجيّة إلى تحديد أهدافها في إطار سياسة استبدال الاستيراد، أي إنتاج سلع مماثلة للسلع المستوردة بهدف تقليص الاعتماد على الاستيراد، أو في إطار الإنتاج الموجّه نحو التصدير، الذي يهدف إلى زيادة حجمه لاستجلاب العملات الأجنبية، أوتحديد القطاعات التي يستطيع الاقتصاد الاستثمار فيها لتحقيق النمو الاقتصادي.
بشكل عام لا تتضمّن برامج صندوق النقد أي من هذه الأمور، وحتى إذا كانت موجودة فإنّ التركيز عليها لا يقارن بالتركيز على الإجراءات الماليّة والنقديّة، التي يعدّها الصندوق، شروطاً مسبقة، ملزمة لأي برنامج إقراض. بينما لا تتعدّى الأمور المتعلّقة بالسياسة الاقتصادية كونها توصيات مذكورة في تقارير الصندوق الدورية.

انعكاسات الاستثمارات الأجنبية على المجتمعات المتلقّية سلبية على الاقتصاد واللامساواة


حتى إنّ الأموال التي يقرّرها الصندوق للدولة المعنية، لا تكون موجّهة بشكل واضح. إذ يمكن إنفاقها على تغطية العجز في موازنة هذه الدولة أو على الاستيراد بدلاً من أن تكون موجهة للاستثمار في قطاعات إنتاجية. علماً بأن الاستثمار في القطاعات الإنتاجية بشكل سليم، يمكن أن يمثّل بديلاً من سياسات التقشّف. إذ إن نجاح الاستثمارات الإنتاجيّة يؤدّي إلى خفض العجز في الحسابات الخارجية، سواء من خلال زيادة تصدير الإنتاج أو من خلال خفض الاستيراد بسبب توفّر السلع محلياً. زيادة التصدير أو خفض الاستيراد، يحدّان من العجز في الميزان التجاري، وبالتالي في الحساب الجاري وميزان المدفوعات. كذلك، تؤدّي الاستثمارات الإنتاجيّة إلى حركة اقتصادية تنتج عنها ضرائب أكبر تساهم في زيادة إيرادات الدولة وخفض العجز في الموازنات.
بشكل عام، يسهم التركيز على السياسات الاقتصادية في حلّ المشكلات بشكل جذري، عن طريق الاعتماد على الموارد البشرية والطبيعية الذاتية للبلد، ما يخلق نوعاً من الاستقلالية الاقتصادية. لكن تجارب الصندوق العديدة تُظهر نقيض هذه الحالة.

أولويّة مدمّرة
أظهرت معظم دراسات الصندوق أنّ برامجه تؤدّي إلى تدفقات رؤوس الأموال الأجنبية إلى البلدان المعنية. بحسب ورقة مايكل بوردو وأشوكا مودي ونينك أومز الصادرة بعنوان «الحفاظ على تدفّق رأس المال: دور صندوق النقد الدولي»، فإنّ دخول صندوق النقد إلى الدّول التي تُعاني من أرقام اقتصاديّة سيئة، يسهم في تدفّق رؤوس الأموال إليها لأنّ برامجه تعطي ضمانة لرؤوس الأموال الأجنبية. والصندوق لا يخفي ذلك، بل يعتبر أن تحفيز تدفّق رؤوس الأموال الأجنبية إلى البلدان المستهدفة هو أمر إيجابي. وهذا مدعاة للتذكير بأنّ الصندوق مؤسسة تروّج وتطبّق الأفكار النيوليبرالية التي تتضمّن تحرير حركة رأس المال بين البلدان. وترى مدرسة الاقتصاد النيوكلاسيكي، التي تنحدر منها النيوليبرالية، من خلال نظريّة التحديث (modernization theory)، أن تدفّق الاستثمارات الأجنبية أمر مفيد لنموّ الاقتصادات النامية. بحسب النظريّة، هذه التدفقات التي تستبدل أو تكمّل رؤوس الأموال المحليّة في الدول النامية، هدفها عملياً هو زيادة رأس المال المستثمر في الاقتصاد، كما أنها تجلب معها تكنولوجيا تسهم في زيادة النمو.
لكن في المقابل، تقول نظرية التبعيّة أنّ الاستثمارات الأجنبية إلى دول العالم الثالث تسهم في إعاقة نموّها الاقتصادي. أولاً، لأنّ العلاقة بين هذه الدول ودول المركز الرأسمالي هي علاقة استغلالية، إذ يُعاد تحويل أرباح هذه الاستثمارات إلى مراكزها بدلاً من أن يُعاد استثمارها في البلد النامي. فعندما تحقّق الشركات الدولية أرباحاً من استثماراتها في دول العالم الثالث، تحوّل أرباحها إلى مواطنها الأصلية، وهذا الأمر يخلق استفادة غير متوازية بين طرفَي الاستثمار (الشركات والدول النامية). فضلاً عن أنّ هذه الاستثمارات تخلق تناقضات وتشوّهات داخل الاقتصادات تحول دون تحقيق التقدّم الاقتصادي الحقيقي. من ضمن هذه التشوهات، هي المزاحمة التي تخلقها الاستثمارات الأجنبية لرؤوس الأموال المحليّة، إذ إنها تخرجها من المنافسة ما يُعيق حركة التقدّم الاقتصادي المحلّي. وبدلاً من أن تسهم رؤوس الأموال المحليّة في تطوير تقنيات محليّة جديدة وتحقيق نموّ مستدام يعتمد على الموارد الوطنيّة، تستفيد الاستثمارات الأجنبية من الموارد البشريّة والطبيعيّة المحليّة (الرخيصة بالنسبة لها) لتحقّق أرباحاً لا تُعيد استثمارها في الاقتصادات المحليّة.


في كتاب «فخ العولمة» يوضح الكاتبان هانس بيتر-مارتن وهارلد شومان أثر دخول الاستثمارات الأميركية على القطاعات المكسيكيّة في الثمانينيات. يشرح الكاتبان، أن هذا الأمر حدث بعد دخول المكسيك في اتفاق مع الصندوق، فقد ظهر في بداية الأمر أنّ نتائج الاتفاق كانت إيجابية؛ العديد من الشركات متعدّدة الجنسيات أتت باستثماراتها لتشيّد المصانع في المكسيك، وارتفعت الصادرات وتراجعت المديونية. لكن، يكمل بيترمارتن وشومان، في الوقت ذاته، إنّ عصف الانفتاح السريع على الولايات المتحدة الأميركية، أطاح بقطاعات وطنية مهمة لم تستطع الوقوف أمام الشركات الأميركية المستثمرة في البلد. ففي قطاع صناعة الماكينات، توقّف الإنتاج في نصف المصانع المكسيكية خلال سنوات قليلة، وفي قطاع النسيج حدث الأمر نفسه. وانخفض معدل النمو الحقيقي إلى ما دون معدّل نمو السكّان.
وحتى خارج إطار نظريّة التبعيّة، تظهر الدراسات أنّ انعكاسات الاستثمارات الأجنبية على المجتمعات المتلقيّة هي سلبية أيضاً. فبحسب دراسة أعدّها باري أيشنغرين وآخرون، يظهر أنّ تدفّقات رأس المال لها انعكاسات سلبية على اللامساواة في البلدان المتلقّية. ويرى أيشنغرين أنّ الاستثمارات الأجنبيّة المباشرة في القطاعات الإنتاجيّة، تفيد فئات معينة دون أخرى، خصوصاً إذا تمّ توظيف هذه الاستثمارات في قطاعات تعتمد على اليد العاملة الماهرة. ففي هذه الحالة من المؤكّد أن يستفيد من هذه الاستثمارات اليد العاملة الماهرة فقط، ما يخلق تفاوتات في المداخيل بين هذه الفئة من العمّال و نظرائهم من العمّال الآخرين. كما أنّ تدفقات رؤوس الأموال إلى الأسواق الماليّة المحليّة تنعكس على اللامساواة من خلال التقلّبات الدائمة التي تخلقها في الاقتصادات. فهذا النوع من رأس المال يسهل دخوله وخروجه، وهو «جبان» يهرب عند أول إشارة بسوء الأوضاع الاقتصادية ما يخلق تقلّبات كبيرة على الصعيد الاقتصادي.
من السهل تحوّل الدول إلى الاعتماد المفرط على نموذج تدفّقات رأس المال، التي تحفّزها برامج صندوق النقد. ومع هذا الاعتماد على التدفّقات تصبح اقتصادات هذه البلدان معرّضة للخضّات الداخليّة والخارجيّة التي قد تدفع رؤوس الأموال للخروج إلى أماكن «آمنة» نسبياً. ويخلق الاعتماد على هذه التدفّقات انكشافاً للاقتصادات على إمكانيّة توقّف حركة رأس المال إلى الداخل، ما يُسهّل الدخول في أزمات اقتصاديّة متجدّدة، تحتّم على هذه الدول العودة إلى صندوق النقد «لانتشالها» مرّة أخرى. عملياً، تدخل هذه الدّول في دوّامة صندوق النقد، وتصبح كمن يلحس المبرد.

أسرى الصندوق
تتعدّد الأمثلة عن الدول التي أصبحت أسيرة صندوق النقد الدولي. ولعلّ أبرزها هي الأرجنتين، التي اتفقت مع الصندوق في شهر آذار الماضي على حزمة إنقاذ جديدة. المفارقة هنا هي أن هذه الحزمة هي الحزمة رقم 21 التي تتلقاها الأرجنتين من الصندوق، وتزامنت مع 12 عمليّة تخلّف عن دفع الديون. يُثبت هذا الأمر أنّ برامج الصندوق لم تحل المشكلات جذريّاً، بل إنها ربما ساهمت في تحفيز أزمة الديون لدى الأرجنتين. إذ أصبحت دفعات الدين وخدمته للصندوق كبيرة لدرجة، بل إنها تسبّبت في الأزمة الماليّة الأخيرة في الدولة.
برامج صندوق النقد الدولي لا تتضمن حلولاً للاقتصاد بل هي عمليات محاسبية لتصفير المؤشّرات


والمثال الأقرب هو مصر التي دخلت في برنامج مع صندوق النقد نهاية عام 2016. على إثر هذا البرنامج عوّمت الحكومة المصرية سعر صرف الجنيه، ورفعت الدعم عن المحروقات، مقابل قرض من الصندوق. وبعد أكثر من خمسة أعوام، لم يشهد الاقتصاد المصري تحولات جذريّة تسهم في بناء أسس اقتصاديّة متينة تبعده عن الأزمات قدر الإمكان. فبقي العجز في الحساب الجاري قائماً، كما هو الحال في الميزان التجاري. في حين بقيت القطاعات الريعيّة صاحبة الحصّة الأكبر من الاقتصاد. وفي هذه الفترة كان الاعتماد الأساسي، لتغطية العجز في الحساب الجاري على تدفّقات رأس المال الأجنبي، الخليجي خصوصاً، إلى الأسواق الماليّة. هذا الأمر جعل الاقتصاد المصري بشكله الجديد، أي بعد دخول صندوق النقد، معرّضاً للخطر في حال توقّف التدفقات. وبعد أزمة كورونا، والحرب الروسيّة ــ الأوكرانيّة الأخيرة، توقّفت هذه التدفقات، وأصبحت حركة رؤوس الأموال الأجنبية تتجه إلى خارج مصر، ما فرض على مصر العودة لاتفاق جديد مع صندوق النقد مقابل حزمة إنقاذ جديدة.
يبقى صندوق النقد أداة لتطبيق المبادئ النيوليبرالية، من تحرير حركة رأس المال إلى الخصخصة وغيرها. وهو ليس مؤسسة تسعى إلى مساعدة الدّول المحتاجة في تحقيق استقلاليتها الاقتصادية، وهذا الأمر يتّضح من معظم التجارب التي تمت معه. اللعبة هي عبارة عن عملية تجميل للأرقام، ووضع «ختم» ضمانة من صندوق النقد، بأن الاستثمار في هذا البلد آمن ومسموح، والهدف هو اجتذاب رؤوس الأموال، في حين لا يُعطى الشقّ المتعلّق ببنية الاقتصاد الاهتمام الكافي من قبل الصندوق لأنه يساهم في حل المشكلات بشكل جذري، وهو عكس المطلوب. فالمطلوب هو الاعتماد على الصندوق وأموال الدول التي تديره.