شكّلت المؤسّسات الصغيرة والمتوسّطة على مدى العقود الماضية محور اهتمام العديد من صانعي السياسات الاقتصادية ومثّلت موضوعَ نقاشٍ مستفيض بين الكثير من الأكاديميّين. اعتُبرت هذه المؤسّسات وقودَ محركات النمو والعمود الفقري لاقتصاد الدول، نظراً لدورها الرئيسي في تعزيز الاقتصاد والتنمية الاجتماعية وبثّ روح المبادرة والابتكار، بالإضافة إلى خلق فرص عمل جديدة وزيادة الناتج المحلّي الخام. إنما هشاشة النظام اللبناني الريعي القائم على المديونية والتحويلات الخارجية أدّت إلى تقويض القدرة التنافسية للأعمال، علماً بأن المؤسّسات الصغيرة والمتوسطة تشكّل نحو 95% من المشاريع النشطة وتوظّف نحو 50% من اليد العاملة


طبقاً لـ«المرصد العالمي لريادة الأعمال»، يضم لبنان معدّلاً عالياً من النشاط الريادي في المراحل المبكرة يصل إلى نحو 15% من السكان في سنّ العمل. ووفق دراسة أجريت عام 2014 عن واقع هذا القطاع في لبنان، أطلقت وزارة الاقتصاد والتجارة وثيقة «الاستراتيجية اللبنانية للمؤسّسات الصغيرة والمتوسّطة: خريطة طريق نحو عام 2020»، بهدف رسم مسار عمل لكلّ من القطاعين الخاص والعام في إطار منسجم يضمن خلق بيئة عمل صلبة عبر السياسات الوطنية والأطر القانونية والتنظيمية والمؤسساتية.
تضمنت الخطة نحو أربعين مبادرة تم تقسيمها بحسب الأولوية لتُطبّق على ثلاث دفعات حتى عام 2020 بهدف رفع فعالية المشاريع الصغيرة والمتوسطة وزيادة قدراتها التنافسية من أجل خلق فرص عمل أكثر تسهم في خفض مستوى البطالة (بالأخص لدى فئة الشباب).
لم تحقّق الخطة أيّاً من أهدافها. لم نشهد نهوضاً وتطوّراً حقيقيّاً في هذا القطاع حتى يومنا هذا. فانعدام الاستقرار السياسي، بالإضافة إلى غياب التخطيط الحكومي، والعجز السياسي، كلها تسيطر على البلاد منذ ما قبل الأزمة الراهنة. وتجدر الإشارة إلى أنّ بند التمويل المتعلّق بالمؤسّسات الصغيرة والكبيرة لم يكن يُذكر بتاتاً كعائقٍ في أي ورقة بحثية تناولت قطاع المؤسّسات في لبنان بعكس الدول النامية حيث تُعدّ مسألة التمويل من بين أهم العوائق التي تقف في وجه نموّ المؤسسات الصغيرة والمتوسطة. والسبب يعود إلى دوام تمتّع لبنان بقطاع مصرفي ضخم يستحوذ على مدّخرات هائلة. بيد أن هذه الأموال لم توظّف يوماً في خدمة الاستثمار وتمويل المشاريع الصغيرة بمقدار خدمتها للدين العام والمضاربات وتراكم الثروات عبر الفوائد العالية.

تجارب محدودة وفرص ضائعة
إنّ هشاشة النظام اللبناني الريعي القائم على المديونية والتحويلات الخارجية هو ما أدّى إلى تقويض القدرة التنافسية للأعمال داخل البلد. كان الاستهلاك هو المحفّز الأساسي للنموّ نتيجة التدفّقات المالية الهائلة التي قُدِّرت بنحو 200 مليار دولار في الفترة الممتدّة من 2003 لغاية 2018. ولكنّ الإحصاءات تظهر أنّ غالبية التسلفيات المصرفية كانت تصبّ في المشاريع الكبرى المملوكة من قبل رجال أعمال نافذين، أو في خدمة الاستهلاك المعيشي (من قروض سكن وزواج وسيارة وأثاث وغيرها)، في حين غابت أي برامج دعم من قبل الحكومات تجاه المشاريع الناشئة والصغيرة باستثناء مبادرة شركة «كفالات».
تبنّت شركة «كفالات» تقديم الدعم المالي للمؤسّسات الصغيرة والمتوسطة عبر منح القروض الميسّرة. ملكية «كفالات» موزّعة بين 75% لمؤسّسة ضمان الودائع، و25% يملكها 50 مصرفاً لبنانيّاً. وهي تعمل كوسيط بين المشاريع وبين المصارف التجارية. وأُنيطَ بوزارة المال مهمّة دفع القروض تحت إشراف المصرف المركزي. هكذا حظيت «كفالات» باهتمام كبير منذ انطلاقتها عام 2000 لكونها التجربة التمويلية الأولى من نوعها في لبنان التي تقصد دعم المشاريع المحلية الصغيرة. وفي هذا المجال، أُبرمت عدة اتفاقيات ذات صلة، أهمّها اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي عام 2006 والتي أمّنت مساعداتٍ مالية من الاتحاد بلغت 4 مليون يورو. لكن، بمرور الوقت، أظهرت الأرقام دوراً متواضعاً جداً لشركة «كفالات» على ساحة المشاريع الناشئة. وبرز التفاوت المناطقي في منح القروض بحيث استحوذ جبل لبنان على غالبيتها، فيما بقيت المشاريع المنبثقة من الأرياف من دون كفالة أو دعم.
رغم وجود أكثر من 9 مؤسسات تعمل في مجال التمويل المصغّر بقي هذا القطاع بلا خطّة واضحة أو إطار تنظيمي فعّال


وبحسب دراسة أجراها الباحثان عبد الله رزق وكليب كليب، يظهر أن من أبرز نقاط الضعف التي واجهت شركة «كفالات» هي مدى الاستفادة من تنزيل الاحتياط الإلزامي. فقد نصّت المادة التاسعة من القرار رقم 7835 تاريخ 2/6/2001 على أن يخفّض الاحتياط الإلزامي لأي مصرف مقابل مساهمته في منح القروض المكفولة عبر «كفالات». ويتم هذا التنزيل على أساس المثال الآتي: بلغت الودائع لأجل محدّد في المصارف التجارية بتاريخ 2/7/2004 نحو 28152 مليار ليرة، وهذه الودائع خاضعة لاحتياط إلزامي نسبته 15% أي نحو 4423 مليار ليرة، ويوضع 20% من هذا الاحتياط تحت تصرف «كفالات». وهذا يعني أنه كان بإمكان الشركة أن تضمن قروضاً بنحو 845 مليار ليرة، ولكنها لم تضمن فعلياً حتى 31/12/2003 سوى 235.3 مليار ليرة ومن بين المعوّقات أيضاً انخفاض حصّة «كفالات» من القروض المدعومة فوائدها، حيث أنّها لم تتخطَّ نسبة 20%، في وقت كان يفترض التركيز عليها أكثر في حال كان الهدف أن تقوم الشركة بدور أكبر في تشغيل الاحتياط الإلزامي. وهذا ما يدلّ على وجود عراقيل موضوعة أمام قيام «كفالات» بعملها بالشكل المطلوب، ومنها تشدّد المصارف في طلب ضمانات إضافية مرافقة لضمان الشركة.

خيارات بديلة
اليوم، وبعد انهيار القطاع المصرفي وتفاقم الأزمة الاقتصادية، تضاءلت إمكانيّة تأمين تمويلي جدّي للشركات الصغيرة والمتوسطة، وبات من الصعب على أيّ مؤسسة مهما كان حجمها أن تنمو بشكل طبيعي خصوصاً بعد تدهور سعر الليرة وارتفاع أسعار المواد الأولية والوسيطة في الإنتاج، بل وحتى لجهة الحصول على تكنولوجيا المعلومات التي تسهم في تطور المشاريع بشكل كبير، بالإضافة إلى إمكانية انقراض ما تبقّى من الشركات العائلية الصغيرة القائمة على النشاطات البدائية كالزراعة والحِرَف، فقد باتت بأغلبها تُعاني من مشكلات تعثّر واستمرار.
في مثل هذه الحالات، دائماً ما يبرز مبدأ «التمويل المصغّر» أو «الائتمان المصغّر» كحلٍّ بسيط وفعّال يسمح للأفراد، وبخاصة الفقراء منهم، من النهوض بمشاريعهم الصغيرة، وذلك عبر تسهيل عملية الاقتراض من دون فوائد أو بفوائد رمزيّة. وقد برزت هذه الفكرة مع الاقتصاديّ محمد يونس في منتصف السبعينيات، بعد تأسيسه لمصرف الفقراء أو مصرف القرية «غرامين بنك» في بنغلادش، وذلك بهدف مساعدة الفقراء على بناء قدراتهم الإنتاجية وتطويرها وتسهيل الحصول على مواد الإنتاج من دون عناء البحث عن كفيل وتذليل الصعوبات المرتبطة بالقروض التمويلية. وسرعان ما انتشر هذا المشروع في العديد من الدول ومن بينها الدول ذات الدخل المرتفع، واعتُمد كركيزة أساسية لمنح القروض الصغيرة وتفعيل دور المؤسسات الناشئة على المستويات الاقتصادية كافّة. أما في لبنان فقد بقي قطاع التمويل المصغّر من دون خطّة واضحة أو إطار تنظيمي فعّال يضمن إمكانيةَ دعمٍ تمويليٍّ مستمرٍّ للشركات الصغيرة والمتوسّطة الحجم رغم وجود أكثر من 9 مؤسسات تمويل تعمل في هذا المجال، ووجود قطاع مصرفي متين (قبل إفلاسه غير المعلن) تصل موجوداته إلى أكثر من 4 أضعاف الناتج المحلي (وهو ما كان كافياً لسدّ الحاجة الاقتراضية للمشاريع الواعدة لو أنّ السياسات الماليّة سارت كما ينبغي.
ونظراً إلى تراجع خدمات المصارف التجارية، تبرز مؤسّسات التمويل المصغّر بمثابة خيارٍ فعّال لتنمية المشاريع الصغيرة، إذ توفّر بناء نظام مالي شامل وآمنٍ ومتاح للجميع يمكّنها من جذب المدّخرات المحلية وإعادة تدويرها على شكل قروض تُمنح لرواد الأعمال والفقراء لتمكينهم من المباشرة بمشاريع مصغرّة مدرّة للدخل، بالإضافة إلى إمكانية تقليص الفجوة التنموية بين الأرياف والمدينة واستيعاب قوّة العمل الكامنة في الأطراف. ضمن هذه الحلقة البسيطة تكون المؤسّسات التمويلية المصغّرة ومعها المؤسّسات الصغيرة والمتوسطة قد ساهمت في دعم المهارات البشرية المحلية ووظّفتها لدفع عجلة التنمية العالقة بين جهود استقدام التحويلات الخارجية وبين إعادة تنشيط القطاع المصرفي عبر عمليات إنعاش اقتصاد الريع والمديونية. غير أنّ المسألة تحتاج أوّلاً إلى قرار سياسي وإرادة عند صنّاع القرار لتوجيه برامج الإنقاذ نحو إعادة ترميم ما تبقى من القطاعات الإنتاجية المهترئة. وإلّا، فإنّ الأزمة وعراقيل النهوض ستبقى مستمرّةً في ظلّ تخبّط الوفود على أبواب البنك الدولي.

* طالبة ماجيستير في الاقتصاد – الجامعة اللبنانيّة



53% من القيمة المضافة
بحسب أرقام البنك الدولي، إنّ الشركات الصغيرة والمتوسّطة تنتشر في جميع أنحاء العالم وتشمل أكثر من 90% من إجمالي المؤسسات. ووفقاً للتقرير السنوي عن الشركات الصغيرة والمتوسّطة الصادر عن المفوّضية الأوروبية، فإنّ هذه الشركات تشكّل 99.8% من مجمل المؤسّسات الاقتصاديّة في الاتّحاد الأوروبي، إذ يبلغ عددها نحو 25 مليون مؤسّسة تمتدّ على 27 دولة وتضمّ أكثر من 100 مليون عامل وموظّف، أي ما يعادل 65% من مجمل العاملين في دول الاتحاد الأوروبي، وهي تسهم في نحو 53% من القيمة المضافة في قطاع الأعمال غير المالية.
يُعزى اهتمام الاتّحاد الأوروبي بالشركات الصغيرة والمتوسّطة إلى قدرتها على امتصاص فائض العرض من اليد العاملة وتوظيفها عمليّاً وفكريّاً في سياق التطوير والابتكار، وبالتالي تعزيز القدرة التنافسية وتوسيع فرص ريادة الأعمال وتعزيزها في مختلف المجالات. وتشير الإحصاءات إلى أنّ 9 من بين كل 10 مؤسسات تُصنّف كمؤسّسة صغيرة أو متوسّطة الحجم، وهي بدورها تخلق 2 من بين كلّ 3 فرص عمل جديدة في الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي جعلها محور التركيز الرئيسي للسياسات الاقتصادية الأوروبية.


تعريف
ترى منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي أنّه ثمّة ركنان أساسيّان ينبغي النظر إليهما في تعريف المشاريع الصغيرة والمتوسطة الحجم: أوّلاً، عدد الموظفين، وثانياً، معدّل العائدات السنوي. وفي سياق متّصل وضعت المفوضية الأوروبية تعريفاً جديداً للشركات الصغيرة والمتوسّطة اعتماداً على ثلاثة معايير كميّة هي: (1) العدد الإجمالي للموظفين في المؤسسة، (2) الحجم السنوي للتداول التجاري أو (3) مجموع الموجودات في رصيد المؤسسة. وثمّة معيار نوعي واحد هو: (4) درجة استقلالية المؤسسة أو ملكيّتها الذاتية.
ومن الضروري كذلك توفّر معيار الاستقلالية في الشركة لجهة شكل وأسلوب توزيع الممتلكات، للتأكيد على أن لا تتجاوز مشاركةُ مؤسسةٍ كبرى في ملكية إحدى المؤسسات الصغيرة والمتوسطة أكثرَ من 25% من رأسمال هذه الأخيرة. وباستخدام هذا المعيار تتذلّل المشاكل الناجمة عن صعوبة تصنيف المؤسسات الصغيرة والمتوسطة المنبثقة أو التابعة لشركات أو مشاريع كبرى.