في الخمسينيات، كان اقتصاد الاكتفاء الذاتي هو السائد في معظم الحيازات الزراعية العائلية الصغيرة في لبنان. هذا النمط من الإنتاج، يعني أن العائلة تستهلك معظم ما تنتجه الحيازة من محاصيل، وتبيع الفائض عن حاجاتها، للسوق المحلية، فتسهم قيمته في تغطية حاجاتها من المواد والسلع الأخرى التي تحتاجها والتي لا تتوافر في الحيازة.ومع تحول الاقتصاد اللبناني إلى اقتصاد خدماتي زبائني تسيطر فيه القطاعات غير المنتجة، تراجع قطاع الزراعة وانخفضت مساهمتها في الناتج الوطني من نحو 15% إلى 6% حالياً، ومن قطاع يشغّل نحو ثلث القوى العاملة إلى قطاع لا يعمل فيه إلا 12%من قوّة العمل على أبعد تقدير. ومن أسباب هذا التراجع، هجرة نصف الفلاحين عن الأرض. فقد انخفض عددهم في قريتنا، على سبيل المثال لا الحصر، من 300 مزارعٍ ناشطٍ في الخمسينيات، إلى 10 مزارعين حالياً، من بينهم خمسة يتعاطون زراعة الحبوب وزراعات بعلية أخرى، ومربيان (اثنان) لقطيع من الأغنام والماعز، ومزارعان يمارسان زراعة التبغ، ومزارع واحد يتعاطى زراعة الخضر داخل الخيم البلاستيكية.

سابقاً، كان أصحاب الحيازات يجمعون في نشاطهم بين إنتاج الحبوب لسدّ حاجاتهم من الرغيف وسواه مما يدخل في غذائهم المتواضع، وبين تربية المواشي والطيور لسدّ حاجاتهم من اللحم والحليب ومشتقاته والبيض. أما حالياً، فإن نشاط الحيازات الزراعية يقتصر على اتجاه إنتاجي واحد.
في ظل الواقع الجديد، تحوّلت القرية إلى مدينة صغيرة يمارس أهلها نمط العيش الاستهلاكي السائد في المدن. وبات معظم القاطنين في القرى يتعاطون مهناً وأعمالاً بعيدة عن الأرض والنشاط الزراعي فيها، أو يلجأ بعضهم إلى صفوف العاطلين عن العمل معتمدين في سدّ حاجاتهم على معونة تأتيهم من الداخل أو من الخارج. أما في قوتهم اليومي واستهلاكهم، فإن غالبية سكان القرية يعتمدون على السلع المستوردة من المدينة بعكس ما كان الأمر عليه سابقاً. ربّة المنزل تشتري حاجاتها اليومية من دكان الحي بدءاً من حزمة البقدونس مثلاً، إلى ربطة الخبز وسواها من السلع الغذائية، ولا تنسى في آخر جولتها أن تحمل معها عبوات وقناني المياه المعبأة في حاويات بلاستيكية بعدما هجرت الطريق إلى عين القرية، أو نبعها...
هذا الواقع المأساوي السائد في الريف اللبناني يوجب طرح برنامج تنموي يهدف إلى خلق مجموعة من وحدات الإنتاج العائلية الصغيرة موزعين على القطاع البعلي، والقطاع المروي.

المجموعة الأولى:
* في القطاع البعلي: تضم المجموعة الأولى، وحدات إنتاجية عائلية صغيرة قائمة على حيازات بمساحة لا تفوق 10 دونمات لكل منها ويكون فيها حظيرة تضم قطيعاً من الأغنام أو الماعز بعديد لا يتجاوز 25 رأساً. يتم اختيار نحو 40 ألف حيازة، أي ما يوازي 63% من مجموع الحيازات القائمة حالياً في هذا القطاع والبالغة 66 ألف حيازة. تقوم الخطّة على أن تدير اليد العاملة العائلية هذه الحيازات بما فيها من قطعان، علماً بأن غذاء القطيع يتوفّر من الأرض المملوكة من العائلة ومن المراعي الشاردة. وبذلك تستعيد الحيازة المقترحة نشاط الحيازة العائلية القديمة التي تقوم على ثنائية (إنتاج حيواني+إنتاج نباتي).
المداخيل المرتقبة من وحدات الإنتاج العائلي توازي في وحدة تربية المواشي 14ضعف الحد الأدنى للأجور وأكثر من 15ضعفاً في وحدات إنتاج الخضر


المجموعة الثانية:
*في القطاع المروي: تهدف الخطة إلى خلق وحدات إنتاجية عائلية صغيرة متخصصة بإنتاج الخضار والأزهار داخل الخيم البلاستيكية أو الزجاجية. ويتم اختيار هذه الوحدات من بين الحيازات التي يضمها القطاع المروي والتي يقدّر عددها بنحو 31 ألف حيازة، على أن يتم اختيارها من الأراضي المروية القريبة من القرى الساحلية. المشروع يقترح اختيار 10آلاف حيازة صغيرة تملك الواحدة منها مساحة من الأرض لا تزيد عن دونم واحد، وعليها يفترض أن تقيم العائلة خيمتين لإنتاج الخضر أو الأزهار. لا يجب أن تزيد مساحة الخيمة منهما عن 320 م2. وتتوافر مياه الري في هذا القطاع، إما من المشروع العام، أي مشروع ري القاسمية ورأس العين، أو من بئر إرتوازية (نزاز)، يُحفر قريباً من بيوت معظم القرى الساحلية. المساحات متوافرة من البازورية وعدلون ثم إلى سهل الدامور مروراً بمشروع الري النموذجي (صيدا - جزين) ومشاريع ري نهر إبراهيم، وصولاً إلى مشروع المنية-الضنية في الشمال.
إن إدخال 50 ألف حيازة عائلية صغيرة قابلة للحياة (5.51%من عدد الحيازات) القائمة حالياً في لبنان، تحقّق الاكتفاء الذاتي لأصحابها. هذا يُعدّ حلّاً جذرياً لسدّ فجوة الغذاء التي يُعاني منها سكان الريف اللبناني. وتجدر الإشارة هنا، إلى أن بقية الحيازات الكبيرة في القطاعين البعلي والمروي، تحقّق أرباحاً طائلة تفوق بكثير حاجة أصحابها، ناهيك عما تحدثه الخطة المقترحة من مفاعيل إيجابية على صعيد:
- تثبيت الفلاحين في أرضهم.
- خلق فرص عمل جديدة تقدر بنحو 100 ألف فرصة بمعدل وحدتي عمل في الحيازة الواحدة.
لكن الأهم من كل ذلك، يبقى في الجانب الاقتصادي. فالمداخيل المرتقبة من وحدات الإنتاج تفوق في وحدة تريبة المواشي 14ضعف الحد الأدنى للأجور، وأكثر من 15 ضعفاً في وحدات إنتاج الخضر. وفي الحالتين، وعلى العموم، تحقّق العائلة الصغيرة دخلاً شهرياً يفوق رواتب موظفي الفئة الأولى في القطاع العام.
لكن تحقيق هذا البرنامج التنموي الطموح، يحتاج إلى توفر عناصر مساعدة عدة من بينها تأمين قروض مالية ميسرة لأصحاب الحيازات العائلية الصغيرة، وتدخّل الإرشاد الزراعي عبر جولات ميدانية يقوم بها المرشدون لتوجيه المزارعين إلى استخدام الأساليب الحديثة في الري واستخدام الأسمدة والمبيدات، وتوفير الطب البيطري لمربي الأغنام والماعز، وتنظيم دورات تدريبية قصيرة الأمد من وقت لآخر، وتأطير العاملين في جمعيات تعاونية خدماتية وتسويقية. فضلاً عن إيجاد وتوفير الأسواق الداخلية والخارجية لتصريف الإنتاج ،وخاصة ما يعود منه لإنتاج الخضار والأزهار التي تفوق حاجة السوق المحلية، في غالب الأحيان.
وبالإضافة إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي من وحدات تربية الماشية، وتسجيل أرباح إضافية في وحدات إنتاج الخضار والأزهار، يحقق البرنامج المقترح منافع عدّة على مستوى امتصاص البطالة المقنعة في الريف، وإعادة التوازن البيئي إلى الأرض التي هجرتها سكّة الفلاح، وإلى قطعان الماشية التي اختفت مع رعاتها إلى غير رجعة.
فهل هناك إدارة زراعية شجاعة مستعدة لتبني هذا البرنامج التنموي الطموح، ونصرته؟

* مهندس زراعي