لا يحتاج الأمر إلى كثير من البراهين لإثبات حصول التوقف عن الدفع. فالمودعون لا يحصلون على ودائعهم بالعملة التي أودعوها فيها وفقاً لنص المادة 711من قانون الموجبات والعقود. صحيح أن هناك وقائع كافية لإثبات ذلك، إلا أنه لم يحسم أي قاضٍ أمره بعد في هذا المجال. والقرار الذي اتخذته المصارف أخيراً بوقف تسديد رواتب الموظفين ما لم تُودع نقداً لديها، هو أحد مسارات التوقف عن الدفع. المستشفيات الخاصة وحدها وقفت بوجه المصارف وأجبرت عدداً كبيراً منها على التراجع عن القرار.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

حالياً، التوقف عن الدفع يفرض مفاعيل سلبية جداً تجاه الأفراد والمؤسسات والمدّخرات الاجتماعية. هذا الضرر لا يلاحق بالشكل المناسب. المشكلة أن الفئات الاجتماعية التي يفترض أن تتصدّر المواجهة مع المصارف، تنكفئ من دون سبب فعلي. فلنأخذ مثلاً نقابة المهندسين التي تضم نحو 60 ألف مهندس ولديها مئات الموظفين وأكثر من 2500 مهندس متقاعد هي تنفق تقديمات اجتماعية مقدّرة بنحو 50 مليار ليرة ونفقات التقاعد بنحو 45 مليار ليرة ولديها نفقات إدارة بنحو 19 مليار ليرة. وهذه النقابة، حصلت في الانتخابات الأخيرة على تفويض من المنتسبين إليها لمواجهة هذا المسار تحديداً، أي مسار الانهيار ومفاعيله مع نجاح لائحة «النقابة تنتفض» وصار النقيب عارف ياسين. هذه النقابة خضعت بكل طيبة خاطر، أيام النقيب السابق جاد ثابت، ومجلس النقابة المؤلف من ممثّلي الأحزاب، للمصارف، ووافقت على أن تسدّد رواتب موظفيها نقداً مقابل أن تسدّدها المصارف للموظفين والمتقاعدين نقداً. والاتفاق الذي حصل يومها، ينصّ على حسم 12% من قيمة كل شيك بالليرة مقابل تسديده نقداً. كذلك ينصّ الاتفاق على أنه في حال استعملت النقابة مدّخراتها بالدولار لتسديد الرواتب والتقديمات، فتُحتسب هذه الأموال على أساس سعر صرف يوازي 3900 ليرة لكل دولار.
يثير هذا الأمر إشكالية أساسية: إذا كانت النقابة ستودع الأموال نقداً، أي أنها قادرة على تحصيل الأموال نقداً، فلمَ الحاجة إلى المصارف لتسديد رواتب الموظفين وتعويضات المتقاعدين؟ أما إذا كانت النقابة مستعدّة لصرف دولارات المهندسين المدّخرة في المصارف وقيمتها تصل إلى نحو 500 مليون دولار، بسعر صرف 3900 ليرة لكل دولار، فهذا يعني أنها تخضع لهيركات بنسبة كبيرة على ودائعها. وهذا بحدّ ذاته توقف عن الدفع من المصارف. إذاً، لماذا لا تنتفض النقابة برئاسة نقيبها الجديد عارف ياسين رغم أنه بات يملك الأكثرية في مجلس النقابة؟
لا إجابة واضحة بعد. وهو أمر سبق أن خاضته نقابات المهن الحرّة أيام الانتفاضة. يومها رفض النقباء، بمن فيهم أولئك الذين طبعتهم الانتفاضة بهويتها، القيام بأي عمل يحمي مدّخرات الأطباء والمحامين والمهندسين... أما المواجهة الحقيقية، فتقودها حالياً حركة «مواطنون ومواطنات في دولة»، إلا أنها تبقى مواجهة ضيّقة إذا لم تتسع لتضمّ الفئات الاجتماعية المعنية بالخسائر اللاحقة بالمجتمع جراء توقف المصارف عن الدفع.
في هذا السياق لا يبدو الاختلاف على التعريفات شكلياً. ففي العمق، هذه التعريفات هي نتاج فكر رأسمالي، ونتاج موازين للقوى لم تتغيّر بعد. هذه الموازين تميل اليوم إلى مصلحة المسار الذي رسمه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة نيابة عن قوى السلطة وباسمها. وهو المسار الذي تسكله حالياً السلطة التنفيذية المشكّلة حديثاً. فهي أعلنت أنها ستقوم بإعادة الهيكلة حيث سيلزم. بشكل ما هي تتهرّب من أن تلتزم بالاعتراف بحصول التوقف عن الدفع. وهذا يعني أن المرحلة المقبلة من مسار سلامة ستأتي، في ظل الحكومة الحالية، مع بضع عمليات تجميلية على الإجراءات السابقة.
القلق هو أن تُنجز عملية إعادة هيكلة لحساب القطاع المصرفي مقابل فُتات ووعود للخاسرين


من ضمن هذا المسار نفسه، تأتي عملية التحكّم المصطنع بسعر صرف الليرة مقابل الدولار في السوق الحرّة. فمع تراجع سعر الدولار تجاه الليرة على المنصّات من 19000 ليرة إلى 14000 ليرة، بدا ظاهرياً أن الخسائر التي يتكبّدها المجتمع تقلّصت. لكنّ الواقع، أن هذا الخفض لم يكن ناتجاً عن عمليات تبادل كبيرة تعكس حجم الطلب والعرض الفعلي في السوق، بل جاء نتيجة اتفاق احتكاري بين ثلاثة أطراف يهدف إلى تظهير سعر صرف مصطنع لليرة مقابل الدولار: مصرف لبنان، المصارف والصرافون. يقوم اتفاقهم على إنشاء منصّة «صيرفة» التي يتم عبرها تسعير سعر صرف الدولار بمعدل لا نعرف أقصاه ولا نعلم شيئاً عن أدناه. كذلك لا نعلم من هي الجهات التي تبيع الدولارات ولا تلك التي اشترت الدولارات. المؤشر الوحيد المتاح من خلال بيانات مصرف لبنان هو حجم التبادلات على المنصّة. لنأخذ تبادلات الأسبوع الماضي. في 17 أيلول كان حجم التبادل 1.2 مليون دولار، وقبلها كان 750 ألف دولار، وقبلها 800 ألف دولار… كل هذه العمليات جاءت في الفترة التي انخفض فيها سعر الصرف، فهل هي مؤشر حقيقي إلى حجم الطلب الفعلي في السوق؟ بالطبع لا. فالاستيراد في لبنان بلغ في الأشهر الثلاثة الأولى من السنة الجارية 3.3 مليارات دولار، أي بمعدل 1.1 مليار دولار شهرياً، وبمعدل 45 مليون دولار يومياً. وحتى مع احتساب الارتفاع في أسعار المشتقات النفطية التي تم تسعيرها على 8000 ليرة للدولار ولاحقاً على 12000 ليرة قبل أن يتم تحريرها نهائياً الأسبوع الماضي، فإن حجم الطلب الفعلي في السوق على الدولار يمثّل أضعاف ما هو متداول على المنصّة. هذا الأمر يثير الشكوك بأن التبادلات على المنصّة هي مصطنعة.
هكذا يصبح التحكّم بسعر الصرف عبر المنصّة تحكماً اسمياً. مفاعيل هذا الأمر تشبه، إلى حدّ ما، ما كان يحصل سابقاً حين كان سعر الصرف مثبتاً مقابل الدولار. يومها كان المجتمع يدفع الكلفة عبر تناقص المدّخرات ومراكمتها بعد تحويلها إلى خسائر. اليوم، يتم إطفاء هذه الخسائر من دون الاعتراف بها، بينما يدفع المجتمع هذه الخسائر عبر سعر صرف مقنّع مرتبط بسعر السلعة المستوردة. سعر صفيحة البنزين وصل في الأسبوع الماضي إلى 600 ألف ليرة في السوق، بينما يباع على المحطات، إن وجد، بقيمة 180 ألف ليرة ابتداءً من 17 أيلول، وبقيمة 130 ألف ليرة في الفترة التي سبقت. في الواقع، إن سعر صفيحة البنزين يبلغ 15 دولاراً، أي أن هناك من يدفع سعر دولار البنزين 40 ألف ليرة. هذا يعني أن سعر الصرف الفعلي يختلف عن السعر الاسمي المعلن في المحطات حيث لا كميات متوافرة. والأمر نفسه بالنسبة إلى المازوت والدواء وغيرهما من السلع. المازوت تحديداً بات يباع بالدولار النقدي. منشآت النفط، وهي المؤسسة الرسمية المملوكة من الدولة اللبنانية باعته في الأسبوع الماضي بالدولار. أما أسعار السلع الاستهلاكية الأخرى مثل الغذاء ومواد التنظيف وسواها، حتى الكتب والقرطاسية... كلها تباع على أساس سعر صرف للدولار لا يقلّ عن 18000 ليرة. وسيكون مؤشّر تضخّم الأسعار دليلاً على ذلك عند صدوره في الأيام المقبلة.


لذا، لا داعيَ لترداد سؤال من نوع: هل نصدّق تحالف سلامة - قوى السلطة، أم حركة السوق الفعلية؟ ولا داعيَ أيضاً للحيرة في مواجهة التعابير التي تحاول قوى السلطة أن تفرضها علينا كعبارة «إعادة الهيكلة حيث يلزم». فما يلزم هو إعادة الإقرار بالتوقف عن الدفع وتحديد الخسائر والتعامل معها عبر توزيعها. معايير التوزيع هي المسألة التي تقع ضمن موازين القوى. حالياً، توزيع الخسائر يتم عبر تعددية أسعار الصرف وتضخّم الأسعار. الاقتطاع من الودائع يسير جنباً إلى جنب مع تورّم مستمر في الأسعار يدفع المقيمون في لبنان كلفته من مداخيلهم ومدّخراتهم. المشكلة أن الأمر لا يقتصر على ذلك، بل يدفعون أيضاً من مستقبلهم ومن وجودهم. والأنكى من كل ذلك أن وهم السعر الاسمي للدولار عبر منصّة «صيرفة» ينطلي عليهم، وهم يوافقون، وإن بتململ، على رفع الأسعار الداخلية للمشتقات النفطية إلى حدود التماهي في سعر دولارها مع سعر المنصّة رغم أن السلعة غير متوافرة ومُقنّنة.
في ظل هذا الواقع، لا يبدو أن هناك تفاهمات عميقة بين أطراف الحكم تسمح بالقول إن لديهم برنامجاً موحّداً، وإن اتفقوا بشكل شبه جماعي على عدم المسّ بالمصارف. معظمهم محكومون بالبحث عن شرعية محليّة تجاه الخارج، وسيحاولون إثبات هذه الشرعية في كل خطواتهم اللاحقة بشأن الكهرباء، التدقيق الجنائي، التعامل مع صندوق النقد الدولي... في النهاية سيبقى المجتمع هو الخاسر الأكبر، لأن القلق هو أن تُنجَز عملية إعادة هيكلة لحساب القطاع المصرفي مقابل فتات ووعود للخاسرين.