يوم الجمعة الماضي، وزّعت وزارة المال تقريراً عن أوضاع المالية العامة يُظهر أرقام النّفقات والإيرادات المحقّقة لغاية نهاية شهر كانون الثاني من عام 2021. هذا التقرير يأتي بعد نحو شهرين ونصف على إصدار وتوزيع التقرير الذي يتضمن الأرقام المتعلّقة بنفقات وإيرادات عام 2020 كاملة. بمعنى آخر، سبعة أشهر كاملة تفصلنا عن الأرقام الحاليّة التي لا نعلم عنها شيئاً. أصلاً مرّت هذه السنة من دون موازنة، وليست هناك تحضيرات فعلية من أجل موازنة السّنة المقبلة. وهذا التّأخير في إصدار الإحصاءات تكرّر في السّنوات الماضية بذرائع إداريّة بعضها كان يشير إلى أنّ الموظفين المعنيين في الوزارة يغيبون عن عملهم لأسباب مرضيّة أو غيرها. لكن في الواقع، إنّ هذا التكرار يُثير الشّكوك بأنّ الوزارة التي يترأسها اختصاصي هو غازي وزني، لديها ما تُخفيه. فهي عاجزة عن تحديد الأرقام، ليس لأنها لا تعرف كم يلزمها من نفقات وكم تتوقع من نفقات، بل لأنها عاجزة عن إدارة أيّ جزء يتعلق بالأزمة الراهنة. ففي مشروع موازنة 2021 كان سعر صرف الليرة اللبنانية ما يزال محتسباً على أساس 1507.5 ليرات، وهذه فضيحة بحدّ ذاتها. لكن الفضائح لم تعد ذات جدوى أو فعاليّة في الكلام العلني، ما يجعل ممثلي السلطة في هيكل الدولة يستمرّون في عجزهم. في الواقع، إنّ سعر الصرف أساسي في تحديد أرقام النفقات والإيرادات.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

ومصدر هذا العجز أنّ الوزارة ورئاسة الحكومة ومجلس النواب، وباقي أطراف السلطة، يتركون لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة إدارة هذا الانهيار بكل مفاعيله القاتمة. فمجلس النواب مثلاً، الذي يتوجب عليه محاسبة السلطة التنفيذية على تقصيرها، انعقد أكثر من مرّة من دون أن يكون على جدول أعماله الموازنة وطريقة احتسابها والانعكاسات المترتبة على طريقة الاحتساب، وهو أيضاً صاحب الاختصاص القانوني بتسعير الليرة اللبنانية لكنه ينأى عن نفسه بهذه المهمة. وهو صاحب الاختصاص أيضاً في إقرار قيودٍ على التّحاويل والعمليّات الماليّة والتجارية لكنه يترك الأمر على عاتق مصرف لبنان أيضاً.
والسّلطة، منذ أن كانت قائمةً أيام حكومة حسان دياب، ولغاية تكليف نجيب ميقاتي، لا تعلم شيئاً عن أوضاعها النقدية والمالية وليست لديها أي خطّة للخروج من الأزمة بعدما انقلبت على خطّة التّعافي التي أعدتها حكومة دياب بالتعاون مع الاستشاري الفرنسي «لازار». كل ما تعلمه السّلطة يأتي من الأرقام التي يقدّمها لها مصرف لبنان. وهذا الأخير رفض سابقاً أن يقدّم لها أيّ تفاصيل متعلّقة بالموجودات بالعملات الأجنبية التي يحملها في محفظته، رغم أنّها ضروريّة لإدارة الإفلاس الحاصل. فمن المهم جداً أن نعلم كميّة العملات الأجنبية التي يملكها النظام من أجل تحديد استعمالاتها سواءً في الدّعم أو في النهوض.
عمليّاً، لا تعلم الدولة أي سعر صرف يجب أن تعتمده، ولا كميّة الأموال بالعملات الأجنبية القابلة للاستعمال لديها، ولا تعلم أيّ دولار جمركي يجب اعتماده لجباية الضرائب، ولا تعلم ما هو انعكاس تصحيح الأجور في القطاع العام على إيراداتها، ولا تعلم حجم الأكلاف المترتّبة عليها للإنفاق على الرّعاية الصحية، وعلى الصيانة، وعلى عمليّات التّشغيل المختلفة في الدوائر الرسمية، وهي لا تعلم أيضاً كلفة البطاقة التمويليّة، ولا كلفة الدعم (أصلاً الدعم يمرّ عبر مصرف لبنان وليس عبر الخزينة كما يفترض به أن يكون)، ولا الدّين العام الخارجي… علاقات الدولة اللبنانية مع الخارج هي أيضاً لا تقع ضمن المعلومات المتاحة لأن مصرف لبنان المعني بإصدار هذه الأرقام يصدر إحصاءات متأخّرة أكثر من سبعة أشهر بكثير. فعلى سبيل المثال، إنّ إحصاءات الحساب الجاري التي تعبّر عن التدفقات النقدية الداخلة والخارجة تعود إلى أيلول 2020 بما فيها تدفقات الاستثمار وتحويلات المغتربين وسواها.
كل ذلك يحصل من أجل من وماذا؟ هو يحصل من أجل عدم الاعتراف بالخسائر. الاعتراف يوجب توزيعها. وهنا أصل المشكلة. فمصرف لبنان يقوم بهذا الأمر نيابةً عن الجميع من خلال سياساتٍ نقديّة تضرب سعر الصرف وتشعل التضخم. وهو يحصل لأن المصارف ومصرف لبنان هما محور هذه الخسائر التي تكبدها النظام المالي في العقود الأخيرة والتي أدّت إلى الانهيار بمفاعيله اليوم. يحصل من أجل الحفاظ على القلّة الثرية في المجتمع وتكبيد الأكثرية الفقيرة كلفة هذه الخسائر عبر تذويبها بتضخّم الأسعار وإفلات سعر الصرف مع تعددية أسعاره. ثمة الكثير من الأمثلة والنماذج عن هذا المسير على العمياني نحو قعر الهاوية، لكن يكفي أن تكون الإحصاءات الماليّة غائبة لأشهر بينما الحاجة تفرض معرفة ما يحصل الآن في بنية الخزينة لتحديد ما يجب القيام به. المطلوب أن يسير المجتمع على العمياني أيضاً، وهو ما يحصل تحديداً. تخايلوا أن هذا المسير يتضمن انقطاعاً للأدوية من السوق، وطوابير طويلة للحصول على البنزين للانتقال من المنزل إلى العمل، وتقنيناً للكهرباء غير مسبوق، بالإضافة إلى انقطاعٍ لمادة المازوت التي تشغّل المولدات الخاصة، ونشوء أسواقٍ رديفة غير نظاميّة لبيع كلّ هذه السلع. تخايلوا أنّ مرفأ بيروت يتفجّر عن بكرة أبيه، وأن انفجاراً يحصل في خزانات بنزين يصيب أكثر من 60 شخصاً بين قتيل وحريق… كل ذلك يحصل على العمياني من دون أي رفّة جفن لأحد.