أجرت منظمة «إسكوا» حواراً اقتصادياً واجتماعياً بين 21 أيلول 2020 و27 كانون الثاني 2021 امتدّ على 8 جلسات وشارك فيه 36 شخصاً يمثّلون «معظم ألوان الطيف السياسي والاقتصادي والاجتماعي في لبنان بمن فيهم الفئات الجديدة المشاركة في حراك 17 تشرين» كما ورد في ورقة صادرة عن المنظمة. خلص الحوار إلى ضرورة تقديم مقاربة شاملة لنظام شامل للحماية الاجتماعية بالاستناد إلى تشخيص الوضع الحالي للسياسات الاجتماعية التي تتميّز «بقدر كبير من التجزئة والازدواجية»، إلّا أنّ المقترحات صبّت في مجال تصحيح النظام وإصلاحه من دون أيّ تدخّل في بنيته الأساسية المشار إليها في التشخيص والتي تتمحور حول مركزية الطوائف في الحكم وزبائنيتها المنتجة للفساد.

45%

نسبة تقلّص مبيعات القطاع الخاص النظامي في 2020
23%
من الموظفين العاملين في قطاعات رئيسية في القطاع النظامي جرى تسريحهم من العمل


إذاً، تتشكّل السياسات الاجتماعية في إطار مسار تاريخي من التجزئة والازدواجية، لكن اليوم ليس هذا هو العامل الوحيد المؤثّر في هذه السياسات. فإلى جانب المسار التاريخي لهذه السياسات، هناك الإفلاس المتزامن مع انتشار جائحة «كورونا»، وهذا ما يفرض من وجهة المشاركين في الحوار، التمييز بين «المساعدة الاجتماعية» و«الحماية الاجتماعية» باعتبار الأولى «إجراء فورياً ضرورياً لكنه مؤقت وتعويضي لا يعالج ديناميات الإفقار ولا يحلّ محلّ الإجراءات اللازمة لبناء نظام متكامل للحماية الاجتماعية». لذا، تركّز الورقة على «توسيع برنامج استهداف الفقراء من خلال نظام تحويلات نقدية مباشرة وغير مباشرة للفئات المستهدفة بأعلى درجة من الدقّة... ليصبح الركيزة الأساسية للتخفيف من الفقر في الأزمة الحالية والركيزة الأساسية لسياسة الحكومة في مكافحة الفقر في المرحلتين الحالية والقادمة».
وهذه المقاربة مبنيّة أيضاً على الحقوق (السكن، الصحة، العمل، التعليم...). تقول الورقة إن هناك «ضرورة لتجاوز مقاربة الاستهداف الضيّق والتوجّه نحو بناء متدرّج لمرتكزات نظام حماية اجتماعية على أساس الحاجة واستناداً إلى منظومة الحقوق». من هنا أيضاً، تأتي ضرورة «تحويل برنامج التحويلات النقدية الطارئة من مشروع منفرد إلى تدخّل في حزمة تدخلات مترابطة تستند بالدرجة الأولى إلى سياسات عامة، لا سيما البطاقة الصحيّة، وسياسات عامة تتعلق بالتعليم، مع إجراء استثنائي يتعلّق بالدعم النقدي المباشر للأسر الفقيرة وذات الوضعية الهشّة...».
في ظل هذه المقاربة، تشير الورقة إلى أن الصحّة «تحتلّ صدارة السياسات والتدخلات الأكثر إلحاحاً». لكن كيف تعامل ممثّلو ألوان الطيف السياسي والاقتصادي والاجتماعي وحراك 17 تشرين مع مسألة «التجزئة والازدواجية»؟
لا شكّ بأن الازدواجية والتجزئة في مجال الصحّة، تعني تعددية الصناديق الضامنة، وضيق رقعة التغطية الصحيّة للمقيمين في لبنان؛ هذا يعني أن الزبائنية السياسية تتطلّب وجود التعددية وقصور التغطية. وهذا بدوره ينعكس فساداً إدارياً ومالياً وصحياً. الفساد وظيفته أن يفرض على المرضى إطاعة رجال السياسة، أي أن يصبح زبوناً لديهم. ففي مقابل النفوذ الذي يقدّم التغطية الصحية ويخفض الفواتير، سيترتّب على الأسر أن تقدّم ولاءها لهذا الزعيم أو ذاك، وأيضاً لأقلّ أزلامهم شأناً. التعاطي مع مسألة من هذا النوع، يتطلب مقاربة غير تلك التي قدّمتها ورقة الحوار. فرغم أنها أقرّت أن نصف السكان لا تشملهم المؤسسات الضامنة، وأن نسبة هؤلاء أعلى بشكل ملحوظ عند الفئات الفقيرة، وأن الفاتورة الصحية مرتفعة، وأن طبيعة النظام الصحي يطغى عليها الاستشفاء والعلاج بينما الرعاية الصحية الأولية والوقاية مكوّنان ضعيفان في ظلّ لجوء متزايد للاستشفاء الخاص، إلّا أنها اقترحت بالتعامل مع هذه المشاكل من خلال «البطاقة الصحية» بدءاً «بالفئات غير المشمولة بأنظمة التأمين الصحي»، ثم انتقلت مباشرة إلى المطالبة بمعالجة «أسعار الأدوية المرتفعة بحكم عوامل احتكارية». فهل يعتقد المشاركون في الورقة أن البطاقة الصحية هي الحلّ لعلاج التجزئة في القطاع الصحي، وأن احتكارات الدواء هي معزولة عن مواقع النفوذ السياسي في لبنان؟ لا بل تذهب الورقة في اتجاه المطالبة بتعزيز أداء القطاع الحكومي الذي تبيّن أن «له دوراً أساساً في التصدّي لجائحة كورونا». كان الأجدر بالمشاركين في الورقة أن يعلموا أن القطاع الحكومي الاستشفائي منبوذ على يد الجهات المشاركة نفسها في الورقة منذ عقود. فالمسار التاريخي لتشكّل السياسات الاجتماعية لم يكن يلحظ سوى دولة التجّار والمصارف. لم يكن يلحظ أبداً دولة الرعاية الاجتماعية. لذا، لا يعتدّ بأي حلّ يعوّل على الجهات للإصلاح.

هل يعتقد المشاركون في الورقة أن البطاقة الصحية هي الحلّ لعلاج التجزئة في القطاع الصحي


القصّة نفسها تكرّرت في ما يتعلق بحق العمل. فالحوار خلص إلى اتّخاذ «كل ما يلزم من إجراءت للحفاظ على فرص العمل ومنع التوسع في ظاهرة الإقفال وتسريح العمال أو تقليص أجورهم، وثمة دعم لا بدّ أن يوجّه لحماية العامل في وضعه الحال ومنع تدهوره وتصميم التدخلات التي تتلاءم مع كل قطاع ومع كل فئة عاملين...». ومن اللافت أيضاً أن الحوار أشار إلى «اتّخاذ إجراءات مالية لحفظ مدخرات العاملين لا سيما تعويضاتهم في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وحماية الأجر الحالي، ومخصصات المتقاعدين...»، فهل يعتقد المشاركون أن الخسائر التي تبخّرت بعد الانهيار يمكن استعادتها. فأموال العمال في الضمان الاجتماعي تبخّرت قيمتها بعد انهيار قيمة الليرة مقابل الدولار من 1507.5 ليرات وسطياً إلى 19500 ليرة حالياً. فمع انهيار كهذا، لم يعُد ممكناً الحفاظ على قيم الأجور والمدّخرات والتعويضات، إلا إذا كان لدى المتحاورين سحر ما في تحويلها إلى دولارات ورقية بسعر صرف ما قبل الأزمة. من المهم الإشارة إلى أن هذا الطرح لا يمثّل سوى وجهة نظر سطحية عن طريقة التعامل مع قوّة العمل في لبنان وخلق فرص العمل. فمسألة كهذه، تتطلّب إعادة النظر ببنية الاقتصاد السياسي للبنان. فالعمل هو جزء أساسي من سلوك الازدواجية والتجزئة الذي مارسه حكام لبنان على مدى العقود الماضية، وهو أيضاً جزء أساسيّ من مسار تاريخي في بناء لبنان على قاعدة التعامل مع الأزمات من خلال صناعة الهجرة، بدلاً من خلق فرص العمل. الهجرة كانت حيوية جداً لاستمرارية النظام الذي أفلس اليوم، وإصلاح النظام يعيد المسألة إلى بدايتها مجدداً.
المقاربة نفسها تنسحب على التعليم والسكن. فالورقة تعاملت معهما بوصفهما قطاعَين معتلَّين في نظام قابل للتصحيح. فعلى سبيل المثال، إن «السعي لحل مشكلة السكن من خلال الكلفة والأسعار» الذي تقترحه الورقة، مبنيّ على فكرة شائعة عن أن حقّ السكن يتمثّل في حق التملّك، وأن النظام الحالي يمكن تضمينه قدراً اجتماعياً أكبر لخلق مساحة أوسع من التملك. المشكلة التي ستواجه تصحيحاً كهذا، أن خفض الأسعار مرتبط بالنموذج الاقتصادي القائم. فاستمرارية النموذج كانت تتطلب تدفقات من الخارج، وهذه لم تكن تأتي إلا بهدفين أساسين: تحويلات المغتربين لأسرهم في لبنان، والاستثمار في الأراضي. التدفقات من الخارج كانت تزيد القدرة الشرائية للمستهلكين وتكبح احتمالات خلق فرص العمل، بينما كانت مفاعيلها على أسعار العقارات زيادة في الانتفاع من الريع العقاري بكلّ أشكاله من المضاربات، وتجارة البناء ولوازمها والعمالة الرخيصة الكلفة...
أسوأ ما في الورقة أنها أشارت إلى إمكانية اقتراح حلول ومعالجات لتدخلات تتعلق بالآتي: كيف يمكن اليوم إصلاح المؤسسات الضامنة وحمايتها. التنسيق بين المؤسسات الضامنة. فالنقاش الذي كان سائداً في السنوات الماضية، كان يركّز على توحيد المؤسسات الضامنة، وعلى التغطية الصحية الشاملة، أمّا الورقة فقد استسلمت كلياً للتعددية والزبائنية.



المشاركون والمشاركات بحسب الترتيب الأبجدي
انطوان حداد ■ باسم الشاب ■ جاد شعبان ■ جيبلبير ضومط ■ جان طويلة ■ خليل شري (توفاه الله مطلع شباط 2021) ■ خليل جبارة ■ خالد زيادة ■ زياد عبد الصمد ■ زينة عبلة ■ روي بدارو ■ سامي عطالله ■ سيبيل رزق ■ طلال حجازي ■ عبد الحليم فضل الله ■ عزة سليمان ■ غسان حاصباني ■ فؤاد رحمة ■ منى فواز ■ محمد بصبوص ■ منصور بطيش ■ مارك جعارة ■ نسيب غبريل ■ ناصر ياسين ■ نعمة نعمة ■ نجوى حنا

فريق الإسكوا
كرم كرم ■ أسامة صفا ■ يوسف شعيتاني ■ طارق العلمي ■ منير تابت ■ سليم عراجي ■ ثريا الزين

فريق مبادرة المساحة المشتركة
أديب نعمة ■ سهى فرام ■ شفيق شعيب


منطلقات الحوار
◄ نسبة الفقر في لبنان بقيت ثابتة نسبياً في الفترة من عام 1995 ولغاية 2019، وبقيت تقارب نحو ثلث الأسر أو السكان حسب معظم القياسات الوطنية، وتسجّل تفاوتات كبيرة جداً حسب المناطق. بلغت خلال هذه الفترة ضعف هذه النسبة في المناطق الطرفية، مقابل نصف هذه النسبة في المناطق الأفضل حالاً مثل بيروت وجبل لبنان الشمالي.

◄ يمكن التعرف إلى الكتلة الصلبة من الفقراء المزمنين، والكتلة الجديدة من الذين كانوا ينتمون إلى الفئات الوسطى والوسطى الدنيا الذين تدهورت أوضاعهم أخيراً بسبب الفعل المركّب للأزمة الاقتصادية وجائحة كورونا. يمكن رصد هذه التحوّلات جغرافياً وحسب الفئات الاجتماعية. وذلك يعني توسّع الفئات المحتاجة إلى أشكال من الدعم المباشر إلى ما يزيد عن نصف السكان بالتأكيد.

◄ في عام 2019 بلغت ثروة أغنى 10% من السكان نحو 70% من مجموع الثروات الشخصية المقدّرة في لبنان بنحو 232.2 مليار دولار. هذه النسبة انخفضت في 2020 لكن التفاوت الشديد في توزيع الثروة يستمر.

◄ لا يمكن فصل الفقر وآليات الإفقار عن اللامساواة والتفاوت، ولا سيما عندما يتطلب الأمر اقتراح المعالجات والحلول وتحديد مصادر التمويل. إن سياسات إعادة التوزيع من خلال نظام ضريبي عادل وسياسات مالية مناسبة تكون أكثر فعالية بالحدّ من الفقر واللامساواة من مجرّد الاعتماد حصراً على زيادة النموّ في الناتج المحلي الإجمالي من دون سياسات فعالة لإعادة التوزيع.

◄ إن التوقعات بأن نسبة الفقر تتراوح بين 50% و60% هي واقعية بحكم التدهور في سعر الصرف ونسب التضخم. وتقدّر نسبة الفقر المدقع بما يتراوح بين خمس وربع الأسر أو السكان.

◄ العدد الإجمالي للفقراء من اللبنانيين يفوق 2.7 مليون شخص بحسب خطّ الفقر الأعلى (الذين يعيشون على أقل من 14 دولاراً يومياً) وهذا يعني عملياً تآكل الطبقة الوسطى بشكل كبير وانخفاض نسبة ذوي الدخل المتوسّط إلى أقل من 40% من السكان. وليست فئة الميسورين بمنأى عن الصدمات، بل إنها تقلصت إلى ثلث حجمها من 15% في 2019 إلى 5% في 2020.