فجأة، قرّر حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، تعليق العمل بمنصّة «صيرفة». قرار من هذا النوع لا يعني فشل المنصّة كأداة لتسعير الليرة ولتمويل الاستيراد فقط، بل يعكس فشل سلامة وفريقه في تحديد رؤية واضحة للسياسات النقدية، باستثناء توظيف هذه السياسة في مسار إطفاء الخسائر وتحفيز تضخّم الأسعار. فالمنصّة لم تضِف سوى سعر جديد للدولار وسط ثلاثة أسعار رائجة: السعر الأساسي المثبت على 1507.5 ليرات وسطياً، سعر التعميم 151 بقيمة 3900 ليرة مقابل كل دولار، سعر منصة صيرفة بقيمة 12000 ليرة مقابل الدولار، وسعر السوق الحرّة الذي يقترب من الـ20 ألف ليرة سريعاً
حسن بليبل ــ لبنان

لا ينبغي أن يكون هناك شكّ بأن منصّة «صيرفة» لم تكن منذ بدايتها إلا أداة لتمويه المسار الذي رسمه سلامة للتعامل مع الأزمة. كان هذا المسار في سباق مع خطة التعافي الحكومية قبل الإطاحة بها. اعترفت هذه الخطة بالخسائر ولحظت توزيعاً لها يتضمّن ارتفاعاً في سعر الدولار ضمن هامش الـ4 آلاف ليرة، فضلاً عن اتفاق على برنامج مع صندوق النقد الدولي. في المقابل، تمكّن سلامة من الانقلاب على هذا المسار بدعم من قوى السلطة في مجلس النواب والحكومة وخارجهما أيضاً. وانتهى أمر الحكومة بكاملها، بعد انفجار مرفأ بيروت، إلى الاستقالة وانعدام فرص تأليف حكومة جديدة مذاك لغاية اليوم. انفراد سلامة بتحديد هذا المسار جاء رغم تلقّيه تحذيراً واضحاً من ممثّلي صندوق النقد الدولي أثناء جلسات التفاوض مع الحكومة (التي استقالت لاحقاً).
مسار سلامة هو إطفاء خسائر القطاع المصرفي من خلال تعدّدية أسعار الصرف وتحفيز تضخّم الأسعار. التعددية بدأت مع اعترافه بتسعير استيراد بعض السلع على سعر مثبت بقيمة 1507.5 ليرات وسطياً من دون الاعتراف بأن السعر الثابت لليرة مقابل الدولار انهار بلا رجعة. لاحقاً، اعتراف سلامة ببعض العمليات المصرفية على سعر للدولار يبلغ 3000 ليرة (لاحقاً رفع السعر إلى 3900 ليرة)، وترك السوق الحرّة تتعامل بسعر أبعد ما يكون عن هذه الأسعار.
النقاش في حاجات الاقتصاد والمجتمع، كان خارج جدول الأعمال الفعلي للمنصّة منذ البدء


عندما تجاوز سعر الدولار الـ15 ألف ليرة للمرّة الأولى، انقضّ سلامة على الأمر كفرصة. نصب فخّاً من خلال وعد قدمه لرئيس الجمهورية ميشال عون بأن لديه فكرة ستؤدي إلى استقرار في سعر الصرف في السوق الحرّة. يومها كانت الأسعار في السوق ما زالت تُقاد عبر تطبيقات إلكترونية منتشرة على الهواتف الخلوية. بعض هذه التطبيقات كان يدار من داخل لبنان وبعضها الآخر من خارجه. تم تصوير هذه المنصّات باعتبارها سوقاً للمضاربة على الليرة، وأن تنظيمها بإدارة مصرف لبنان مع الصرافين والمصارف بالتوازي مع ضبط هذه التطبيقات وإغلاق معظمها، سيخدم الفكرة التي روّج لها سلامة عن استقرار سعر الصرف. يومها كان النقاش في مسائل الدعم محتدماً أيضاً، لكن سعر الصرف استحوذ على الاستقطاب الأوسع وكان له وقع شعبوي أكثر.
المهم، أن سلامة أعلن في 17 أيار الماضي بدء العمل بالمنصّة بعد أسابيع من المماطلة وفشله في إجبار المصارف على تمويل جزئي للعمليات على المنصّة. هذه المنصّة، أصلاً، كانت تعمل بين مصرف لبنان والصرافين، لكنها باتت تشمل أيضاً المصارف وبشروط مختلفة. هكذا تكبّدت الاحتياطات أكثر من 100 مليون دولار ضخّت على المنصّة من أجل تمويل عمليات تعدّ هامشية، مثل تمويل تحويلات العاملات في الخدمة المنزلية بالدولار، وتمويل الكثير من السلع المستوردة سواء لمصلحة أفراد أو شركات. لم يتم التمييز بين الحاجات الأساسية التي يجب أن تلبّيها المنصّة، لا سيما أنها مموّلة من احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية التي تعدّ مخزوناً غير متجدد واستراتيجي، وبين الحاجات الأخرى التي يمكن رفع أسعارها أو الاستغناء عنها.


وبالفعل واجهت بعض الشركات المستوردة موقفاً سلبياً من فواتير الاستيراد التي تقدمها. لم يُراعَ أن هذا النوع من «الكونترول» لا يمكنه أن يكون بهذه العشوائية أو الاستنسابية، أو حتى بيد مصرف لبنان. هذا النوع من الكونترول يجب أن يكون مدروساً جداً وضمن أولويات واضحة، وليس وفق رؤية سطحية ساذجة لمصرف لبنان وحاكمه.
النقاش في الأولويات وفي حاجات الاقتصاد والمجتمع، كان خارج جدول الأعمال الفعلي للمنصّة منذ البدء. هذه المنصّة ليست سوى أداة لتخدم تعددية أسعار الصرف بما يسهم في إطفاء الخسائر الكامنة في القطاع المصرفي عبر الهوامش بين الأسعار. كل الكلام عن كونها أداة لسحب السيولة من السوق اتّضح أنه كلام غير واقعي، لا بل إن مصرف لبنان لم يستطِع أن يجذب المستوردين للحصول على التمويل منه. لم يثقوا به، بل على العكس لجأوا إلى السوق الحرّة حيث السعر كان في البداية أعلى قليلاً من سعر المنصة. بهذا المعنى كان سعر الدولار يزداد بوتيرة سريعة نسبياً لأن الطلب الفعلي كان خارجها، ولأن عوامل العرض والطلب كانت تخدم مسار سلامة.
مسار إطفاء الخسائر خرج عن السيطرة والثمن يدفعه عموم الناس بالتضخم


لنأخذ الأمر بشكل إحصائي، وهو أمر يعلمه مصرف لبنان بدقة. طلب شراء الدولارات على المنصّة لم يتجاوز في أحسن أحواله أكثر من 5 ملايين دولار يومياً. في المقابل، الطلب اليومي على الاستيراد من خارج السلع المدعومة، هو أضعاف الطلب على المنصّة، أي أن المستوردين كانوا يحصلون على الدولارات اللازمة لاستيرادهم من السوق الحرّة بأضعاف ما كان يضخّه مصرف لبنان. بهذا الوضوح كان يمكن رؤية المشكلة: عمليات المضاربة ستتم من خلال المنصّة وبطريقة احترافية.
هنا قد يقال إن المسألة تتعلق بالعرض والطلب باعتبارهما عناصر مطلقة الوجود من تلقاء نفسها، لكن الواقع أنها مسألة تتعلق بالبيئة التي يخلقها صنّاع السياسات للعرض والطلب. السياسات النقدية لا يمكنها أن تكون أداة إدارة الأزمة لأنها ترى الأمر من منظور أرقامها في ظل قيادة حاكم لمصرف لبنان ومجلس مركزي لا يرى أبعد من ذلك أيضاً. ليست لديهم أي رؤية اقتصادية لأي شيء، وليسوا قادرين على تقديم أي رؤية استراتيجية أيضاً. استراتيجيتهم واضحة: إطفاء الخسائر مهما كلّف الثمن. هذا المسار بات خارج السيطرة والثمن الذي يدفعه عموم الناس من خلال تضخّم الأسعار لإطفاء خسائر النظام المصرفي، لن يكون الثمن الوحيد المسدّد لأن الخروج أيضاً من هذا المسار سيرتب كلفة قد تكون أكبر.