منذ بدأت أزمة كورونا، توجّه المستثمرون في الأسواق المالية العالمية إلى العملات المشفّرة وخصوصاً شراء عملة الـ«بيتكوين». اعتبرت هذه العملات ملاذاً في مواجهة المخاوف من تراجع قيمة الدولار. مصدر هذه المخاوف يتعلّق بطباعة كميات هائلة من الدولارات أثناء جائحة «كورونا». فقد خلقت عملية الطباعة قلقاً من تضخّم كبير في أميركا، إذ ارتفعت الكتلة النقدية M1 من 4 تريليونات دولار في شهر آذار 2020 إلى 18 تريليون دولار في أول شباط الماضي 2021، بحسب أرقام الاحتياطي الفيدرالي الأميركي.

وكان من أبرز داعمي الـ«بيتكوين» رجل الأعمال الشهير إيلون ماسك، المدير التنفيذي لشركة «تيسلا». في وقت سابق من السنة الجارية، أعلن أن الشركة ستبدأ بقبول تسديد ثمن السيارات المبيعة بواسطة عملة الـ«بيتكوين». ولم يكتفِ بذلك، بل كشف عن أن شركته اشترت من هذه العملة ما قيمته 1.5 مليار دولار. أدّى ذلك إلى قفزات كبيرة في أسعار هذه العملة. كانت تبلغ قيمة وحدة الـ«بيتكوين» نحو 3700 دولار في أول شهر آذار 2020، لكنها وصلت إلى 63 ألف دولار في منتصف نيسان الماضي.
شهر العسل بين «بيتكوين» و«تيسلا» ماسك لم يستمرّ طويلاً. ففي 12 أيار الماضي، أعلن ماسك، أن الشركة أوقفت التعامل بعملة الـ«بيتكوين» حتى إشعار آخر، بسبب «تأثيرها الثقيل على البيئة» على حدّ تعبيره. برّر ماسك الأمر، بعمليات «التعدين» التي تخلق وحدات الـ«بيتكوين» والتي تستهلك كمية هائلة من الكهرباء ما يسهم في زيادات الانبعاثات السامّة للبيئة. بعد هذا الإعلان دخل سعر العملة المشفّرة في مسار انحداري، وانخفضت قيمتها من 54 ألف دولار في نهاية يوم 12 أيار إلى 43 ألفاً في 18 منه، أي بتراجع نسبته 20% خلال بضعة أيام فقط.
وفي 18 أيار تلقت الـ«بيتكوين» صفعة ثانية. هذه المرّة أتت من المارد الصيني. فقد أعلن مسؤولون ماليون صينيون أن البلاد ستتخذ إجراءات صارمة ضدّ المؤسسات المالية التي تجري أعمالاً بواسطة العملات المشفرة أو تلك التي تقدّم خدمات ذات صلة بهذه العملات. وفي بيان مشترك يوم 18 أيار الحالي، أعلنت ثلاث مؤسسات صينية، تشرف على القطاع المالي، أن المصارف ومؤسّسات الدفع لا يمكنها إجراء المعاملات المتعلقة بالعملات المشفرة، الأمر الذي أدى تحديداً إلى حظر عدد كبير من الأنشطة بما فيها تسجيل العملات المشفّرة، والتداول بها، وعمليات المقاصة والتسوية المتعلّقة بها. هذه المؤسسات الثلاث هي الرابطة الوطنية المختصّة بالعمليات المالية عبر الإنترنت في الصين، والجمعية المصرفية الصينية، وجمعية الدفع والمقاصة في الصين. بعد هذا الإعلان انخفض سعر الـ«بيتكوين» من 44 ألف دولار في صباح 18 أيار إلى 34 ألف دولار في اليوم التالي قبل أن يحصل تصحيح طفيف وتعود هذه العملة إلى الارتفاع لتبلغ 41 ألف دولار في نهاية التعاملات في 21 أيار.
رغم تصريحات ماسك والقوانين الصينية ضد «بيتكوين»، بقي التداول بها قائماً واستمرّت عمليات «التعدين» التي تنتج عنها وحدات الـ«بيتكوين»


انعكس هذا الانخفاض في سعر «بيتكوين» على باقي العملات المشفّرة، التي تبعتها في المسار الانحداري للأسعار. «إيثريوم»، وهي العملة التي تحظى بثاني أكبر حصّة في سوق العملات المشفّرة بعد «بيتكوين»، انخفض سعرها من 4300 دولار في 12 أيار إلى نحو 2300 دولار في 22 منه، أي بانخفاض نسبته 47%. كذلك انخفض سعر عملة «دوجكوين» التي دعمها سابقاً إيلون ماسك، من نصف دولار إلى 35 سنتاً أي بنسبة 40%. وبحسب مقال نشر على موقع مجلة «فوربز»، خسر سوق العملات المشفّرة نحو 700 مليار دولار خلال هذين الأسبوعين المذكورين.


تثير هذه الخضّة في سوق العملات المشفّرة الشكوك حول استمرار هذه العملات مستقبلاً، ولا سيما مع التحديّات المماثلة التي قد تواجهها. الإشكالية الأولى تتعلق بدور هذه العملات في السوق الحالية. فهي لا تلعب دور «العملة» بالمعنى التقني للكلمة رغم أنها معتمدة في الكثير من عمليات البيع والشراء عالمياً، إلا أن التقلّب الكبير في سعرها يجعل مخاطر التعامل بها كبيرة، فيصبح اعتمادها في المعاملات التجارية أمراً غير محبّذ بشكل عام. بل تلعب هذه العملات دوراً آخر في السوق العالمية الآن، وهو دور أداة المضاربة للمستثمرين الذين يبحثون عن جني الأرباح في الأسواق المالية. أما التقلّب الكبير في سعر هذه العملات، فهو يجعل منها قناة مناسبة لتحقيق الأرباح السريعة، لكن هذه الخاصيّة عادة ما تأتي مع مخاطر، وهو أمر طبيعي بحسب ما يعرف في العالم المالي بعلاقة المخاطر بالعائدات (risk-return).

قد يصب هذا التقلّب الكبير في الأسعار، في كفّة الرأي القائل بأن هذه العملات غير مسندة بموجودات مادية تدعم قيمتها، فتحديد هذه القيمة متروك فقط لعملية العرض والطلب في السوق وهو ما يجعلها عرضة لأحداث مثل تصريحات إيلون ماسك وتضييق الصين عليها. وقد تكون هذه العملات عرضة لأحداث أخرى، مثل التلاعب بالأسعار (market manipulation)، وما يجعلها عرضة لهذه الأحداث هو عدم وجود قوانين تنظّم عمليات التجارة بها، مثل تلك القوانين التي تنظم المعاملات التجارية بالأسهم والأوراق المالية.
لكن التعافي الطفيف الذي شهده سعر «بيتكوين» بعد هذه الأحداث يظهر أنها قد تكون عصيّة على عقبات كهذه. فرغم تصريحات ماسك والقوانين الصينية، بقي التداول بها قائماً، وبقيت عمليات «التعدين» التي تنتج عنها وحدات الـ«بيتكوين» قائمة، وعادت حركة العرض والطلب عليها في السوق لترفع سعرها مرة أخرى، كما هو الحال مع باقي العملات المشفّرة. وفي حال استقر سعرها مستقبلاً، ومع الظروف الاستثنائية التي يمر بها الاقتصاد العالمي حيث الدولار مهدد بفقدان سيطرته على المعاملات التجارية العالمية، في خضمّ كل هذا قد يكون لهذه العملات فرصة لتثبيت مكانها كعملات حقيقية. فتتخلى عن دورها كأداة مضاربة ونحقق الهدف الذي خُلقت من أجله وهو خلق نظام مالي عالمي لامركزي.



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا

تابع «رأس المال» على إنستاغرام