كما أن المنصّة التي تأخّر مصرف لبنان في إطلاقها، مرتبطة باستمرارية الدعم والاحتياطات بالعملات الأجنبية، إلا أنها أيضاً لا تنفصل أبداً عن التعميم 154 الذي فرض على المصارف تكوين سيولة أجنبية بنسبة 3% من قيمة ودائعها بالدولار في نهاية حزيران 2020، ولا عن الاقتراح الأخير الذي رماه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بشأن تسديد مبالغ للمودعين بالعملات الأجنبية وبالليرة تصل إلى 25 ألف دولار. هذه المسائل كلّها تأتي في إطار سياسي يهدف إلى رشوة جيش المودعين وتجميل الخسائر التي تراكمت في موازنة مصرف لبنان.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

قبل نحو أسبوعين، عقد مجلس إدارة جمعية المصارف اجتماعاً عرض فيه رئيس الجمعية سليم صفير اقتراحاً من حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. ينصّ الاقتراح على أن تدفع المصارف لكل مودع 500 دولار شهرياً. الاقتراح تضمن أيضاً أن تبلغ الكلفة الإجمالية لهذه العملية نحو 5 مليارات دولار موزّعة على ثلاث سنوات، وأن تكون المصارف قادرة على تمويل نصف المبلغ من السيولة الخارجية المجمّعة في مصارف المراسلة بموجب التعميم 154 (3% من ودائع الدولار في نهاية حزيران 2020 وهي تساوي 3.4 مليارات دولار)، على أن يقوم مصرف لبنان بتمويل النصف الآخر عبر خفض سقف الاحتياط إلى الحدود التي تتيح له تحرير مبلغ 2.5 مليار دولار. النقاش بين المصرفيين دار حول كيفية تغطية الـ2.5 مليار دولار في وقت أن هناك مصارف لم تتمكن من الالتزام بالتعميم، لا بل إن بعضها باع أصولاً له في الخارج من أجل تجميع ما يترتب عليه بموجب التعميم. النقاش خُتم على يد رئيس الجمعية سليم صفير الذي قال إن الأمر بمثابة «بونبونة» مقابل إقرار «الكابيتال كونترول».
هذا النقاش متصل بنقاش آخر يتعلق بتأخّر إطلاق منصّة «صيرفة» التي وعد بها سلامة. فبحسب المعلومات، سجّلت المصارف الثلاثة الأكبر في لبنان، بنك عودة، بلوم بنك، بيبلوس بنك، اعتراضاً على المشاركة في تمويل هذه المنصّة، باعتبار أنهم لن يستخدموا الأموال التي جمعوها من خلال الضغط على المودعين وبيع أصول خارجية، من أجل تشغيل المنصّة التي يسعى مصرف لبنان بموجبها أن تحلّ المصارف محلّه في تمويل استيراد السلع.
إذاً، الاقتراح التقني بإنشاء المنصّة، وبتسديد بعض قيم الودائع، وإقرار الكابيتال كونترول هو سلّة واحدة يدفع بها سلامة. ولهذه السلّة بعد سياسي واضح، أشار إليه سلامة في بيانه الأخير عندما قال إنه يحتاج إلى تغطية قانونية. طبعاً المقصود بهذه التغطية، إقرار تشريع في مجلس النواب. هي معادلة قائمة على «تسوية»؛ ففي مقابل إقرار قانون لـ «كابيتال كونترول» يحمي المصارف من الدعاوى القانونية التي انهالت عليها بالجملة في لبنان والخارج، سيقرّ المجلس النيابي التغطية القانونية التي تقونن «الرشوة الانتخابية» التي تسعى إليها قوى السلطة من أجل ضمان استمراريتها. الترجمة العملية لهذه التسوية تكمن في الوصف الذي أطلقه صفير عليها: «بونبونة». هي مجرّد هديّة ستُمنح لجيش من المودعين - الناخبين الذين سيسحبون بعضاً من أموالهم بالعملات الأجنبية وبعضها بالليرة أيضاً. في الواقع، يجب الانتباه جيداً إلى ما جاء في بيان حاكم مصرف لبنان. هو لم يقل أبداً إنه سيدفع لكل المودعين ما قيمته 25 ألف دولار، ولم يقل أبداً إنه سيدفع لهم كل المبلغ بالعملة الأجنبية. بل قال إنه «يتفاوض مع المصارف»، من أجل «تسديد تدريجي للودائع التي كانت قائمة قبل 17 تشرين الأول 2019 وكما أصبحت في 31 آذار 2021»، وإنه يعدّ خطّة «يتم بموجبها دفع مبالغ تصل إلى 25 ألف دولار أميركي، وبالدولار الأميركي أو أي عملة أجنبية، إضافة إلى ما يساويها بالليرة اللبنانية وسيتم تقسيط هذه المبالغ على فترة زمنية يحددها مصرف لبنان قريباً».
إذاً، المسألة كلها تبدأ بالتفاوض مع المصارف. بمعنى آخر، إن مصرف لبنان في موقف حرج للغاية يدفعه إلى التفاوض مع المصارف بدلاً من الضغط عليها. صحيح أن بإمكانه تهديدها بالإقفال إذا خالفت، لكن يبدو أنه ليس قادراً على فعل هذا الأمر مع المصارف الثلاثة الأكبر. وهذا يعني أيضاً أن المفاوضات لا تتعلق حصراً بتسديد الودائع بل بمشاركة المصارف في «المنصّة» لتمكينه من رفع الدعم وتخليص احتياطاته من الضغوط الكبيرة. لذا، قد نرى مصرف لبنان أكثر خضوعاً لما يريده «حزب المصرف»، وقد يوافق على تمويل المنصّة من أمواله من أجل وقف الدعم، لكن ثمة مخاوف جديّة من أن يفشل مخطط التمويل المطروح، وأن يبدأ الحديث عن بيع الذهب لتوزيعه على المودعين. رغم ذلك لن يتمكن المصرف من إخفاء حقيقة الخسائر التي ألحقها بموازنته من أجل إطفاء خسائر المصارف. فخلال سنة وثلاثة أشهر (2020 - آذار 2021) تكبّد مصرف لبنان خسائر إضافية تُقدّر بنحو 32 ألف مليار ليرة، وطبع نقوداً بقيمة 25 ألف مليار ليرة. فالودائع بالعملات الأجنبية التي تمثّل النسبة الأكبر من الخسائر المتراكمة في موازنات المصارف، تراجعت في الفترة نفسها بقيمة 9 مليارات دولار. الحاكم يشتري المزيد من الوقت لتأمين خروج آمن، بينما «حزب المصرف» يحقق المزيد من المكاسب.



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا

تابع «رأس المال» على إنستاغرام