بات واضحاً أن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة يخادع الجميع في ظروف بالغة التعقيد والحساسية تستوجب الدقّة والمصارحة. ففي الأسبوع الماضي، وجّه سلامة رسالة إلى رئاسة الحكومة يبلغها بأنه احتياطاته بالعملات الأجنبية بلغت 19.8 مليار دولار في نهاية تموز، وأن دعم استيراد السلع يكلّفه نحو 766 مليون دولار شهرياً، ما يعني أنه بعد ثلاثة أشهر ستنخفض الاحتياطات بقيمة 2.3 مليار دولار لتبلغ قيمتها الإجمالية 17.5 مليار دولار، أي ما يوازي قيمة الاحتياطات الإلزامية المفروضة على الودائع والتي لا يمكن المسّ بها قانوناً، ما يعني أنه لم يبقَ من الودائع إلا هذا المبلغ!الخدعة في هذه الرواية تكمن في أمرين: حقيقة الأرقام الصادرة عن الحاكم، وقدرته على مواصلة الدعم. ما يقوله سلامة هو أن قيمة الاحتياطات بالعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان تبلغ اليوم قيمة الاحتياطات الإلزامية بعد ثلاثة أشهر (17.5 مليار دولار) مضافاً إليها الإنفاق خلال هذه الفترة بقيمة 2.3 مليار دولار (19.8 - 17.5 = 2.3 مليار دولار). وبهذا المعنى، فإن قيمة الودائع ستبلغ بعد ثلاثة أشهر 116.6 مليار دولار (على أساس احتياط إلزامي على ودائع الدولار بنسبة 15%).
إذاً، كيف يشرح سلامة الأرقام الصادرة عن موقع مصرف لبنان الإلكتروني، والتي تشير إلى أن ودائع الزبائن بالدولار لدى المصارف بلغت في نهاية حزيران 2020 ما قيمته 113.7 مليار دولار؟ هل يتوقع سلامة «معجزة» تقود نحو زيادة الودائع؟ أياً تكن اعتبارات سلامة، فمن الواضح، أن مسار الودائع في القطاع المصرفي هو انحداري لا تصاعدي. كانت قيمة الودائع بالدولار في نهاية 2019 تبلغ 119.86 مليار دولار، ثم انخفضت إلى 113.7 مليار دولار (تراجع بقيمة 6.16 مليارات دولار)، وكانت قيمة الودائع بالليرة 37.61 مليار دولار ثم انخفضت إلى 28.51 مليار دولار (تراجع 9.1 مليارات دولار). في المجمل تقلّصت الودائع بنحو 15.6 مليار دولار في أول ستة أشهر من 2020 في ظل قيام مصرف لبنان بتمويل عمليات تحويل الودائع من الليرة إلى الدولار على سعر 1520 ليرة للدولار وإتاحة سحبها للزبائن على سعر 3850 ليرة، بما يعنيه ذلك من طباعة كميات هائلة من النقد.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

وبنتيجة انخفاض الودائع على الدولار بقيمة 6.1 مليارات، فإنّ الاحتياط الإلزامي عليها انخفض أيضاً بقيمة 915 مليون دولار. وعلى افتراض أن معدّل التراجع الشهري في الودائع استمرّ على حاله للأشهر الثلاثة المقبلة، ستتراجع الودائع بالدولار بمعدل مليار دولار شهرياً لتبلغ 109.7 مليار دولار في نهاية تشرين الأول، وستنخفض معها الاحتياطات الإلزامية إلى 16.45 مليار دولار، أي بفرق يتجاوز مليار دولار مع ما يقوله. هذا المليار قد يكفي لأكثر من ثلاثة أشهر إضافية ربطاً بالخديعة الثانية التي تتعلق بنفخ أرقام الدعم.
سلامة يزعم أن مصرف لبنان يدعم السلّة الغذائية بنحو 210 ملايين دولار شهرياً (الدعم على سعر 3850 ليرة وبنسبة 85% من قيمة المستوردات)، وأن باقي مبالغ الدعم، أي 556 مليون دولار، تموّل استيراد المحروقات والدواء والقمح والمستلزمات الطبية (الدعم على سعر 1520 ليرة وبنسبة تتراوح بين 85% للمحروقات والدواء والقمح وبنسبة 50% للمستلزمات الطبية).
في المقابل، تشير المعطيات الإحصائية الصادرة عن الجمارك اللبنانية، إلى أن المعدلات الشهرية لاستيراد القمح والدواء والمستلزمات الطبية والمحروقات (بنزين ومازوت وفيول وغاز) لم تتجاوز في الأشهر الستة الأولى من السنة الجارية 300 مليون دولار بعد احتساب نسب الدعم التي حدّدها مصرف لبنان لكل سلعة (بين 50% و85%)، أي إن كلفة الدعم على ثلاثة أشهر تبلغ 1528مليون دولار مقارنة مع مزاعم سلامة بأنه يبلغ 2300 مليون دولار!
القصّة الأساسية لا تكمن في التلاعب بالأرقام، فأيّ تاجر أدوات مالية أو محاسب صغير يمكنه القيام بها، لكن المسألة الأساسية تتعلق بقانون النقد والتسليف. فالمادة 76 تفرض على المصارف إيداع احتياط أدنى لدى مصرف لبنان عن الودائع والأموال المستقرضة، من دون تحديد نسبتها، بل تُرك الأمر لمصرف لبنان الذي حدّدها في تعاميمه بنسبة 15% على الودائع بالدولار. يثير هذا الأمر السؤال الآتي: لماذا أناط قانون النقد والتسليف بمصرف لبنان تحديد نسبة الاحتياط الأدنى؟ لأن هذه النسبة تمثّل إحدى أدوات السياسة النقدية التي يرسمها المصرف المركزي انطلاقاً من الأهداف التي يسعى إليها في سياق السيطرة على الكتل النقدية والتضخّم والحفاظ على سلامة النظام المصرفي. لكن سلامة لم يقُم بأي من ذلك. فمن المتاح له، في ضوء التطورات الخطيرة في الوضع المالي والنقدي، خفض هذه النسبة إلى 10% على سبيل المثال. هذا الخيار متاح حكماً من دون أي ضرورة لعرض الموضوع على الحكومة إلا من باب التنسيق، وليس من باب تحميلها مسؤولية رفع الدعم كما يحاول سلامة. وهو يفلت التضخّم عمداً عبر طباعة كميات هائلة من النقد لإطفاء خسائره بالدولار، ثم يدّعي أن المسّ بالاحتياط الإلزامي يتطلب قانوناً! كيف أنفق ودائع الناس من دون أي قانون إذاً؟ أليس كلامه عن بلوغ احتياطاته بالعملات الأجنبية ما يساوي الاحتياطات الإلزامية، إقراراً بأنه لم يبقَ من الودائع إلّا هذا المبلغ؟

تابع صفحات ملحق «رأس المال» على وسائل التواصل الاجتماعي:
فايسبوك
تويتر
إنستغرام

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا