بين مطلع تشرين الثاني 2019 ونهاية آذار 2020 استورد لبنان بما قيمته 5560 مليون دولار مقارنة مع 8057 مليون دولار في فترة مماثلة من عامَي 2018 – 2019، أي تقلّص الاستيراد بنسبة 31% أو ما قيمته 2467 مليون دولار. هذا التراجع لم يحصل بشكل مفاجئ، بل كان تدريجياً وبلغ ذروته في شهر آذار بتراجع نسبته 62%. ولعل هذه النتيجة تعكس بداية الأزمة لأن الاستيراد المسجل في الجمارك عائد لطلبات استيراد عمرها 3 أشهر على الأقل. وهذا يعني أن الأزمة بدأت تفرض على اللبنانيين نمطاً من التخلي عن استهلاك سلع مترفة او لها بديل محلّي.أهمية دراسة هذه الفترة تكمن في أنها تمثّل الحدّ الفاصل بين حرية حركة رؤوس الأموال وتقييدها. ولا تنحصر أهميتها بالتطوّرات التي جاءت بعد 17 تشرين الأول 2019 بما فيها إقفال المصارف وفرض القيود الاستنسابية على حركة رؤوس الأموال وتهريبها ثم إعلان لبنان التوقّف القسري عن سداد سندات اليورويوندز وإعداد خطّة لتقويم الخسائر وشطبها، بل هي تشمل أيضاً الإقفال القسري الناتج عن انتشار وباء كورونا اعتباراً من 21 شباط 2020 ثم إعلان لبنان بدء التفاوض مع صندوق النقد الدولي لاستدانة أكثر من 10 مليارات دولار في إطار برنامج تمويلي.
تحمل هذه الفترة دلالات على أنماط الاستيراد والاستهلاك المحلي؛
ــ اللبنانيون استغنوا عن ثلث السلع المستوردة خلال 5 أشهر، وعن ثلثي السلع المستوردة في آذار. هذه النتائج تؤثر على سلوك المستهلك وهي ناتجة من انفلات سعر صرف الليرة مقابل الدولار وتقلباته الحادة والسريعة، وتضخّم أسعار السلع والخدمات، وإغلاق المؤسسات وصرف الأجراء. أي إن المستهلك بدأ يركّز أكثر على إعادة توزيع نفقاته بشكل يتناسب مع مستوى مداخيله ومع تضخّم الأسعار وانقطاع الأصناف، وبات يعمد إلى تقليص سلّته الاستهلاكية ويفاضل أكثر بين الأصناف وأسعارها. بعبارة أوضح، ينطوي هذا الأمر على نمط حياة جديد بسبب غلاء الأسعار الذي أصبح مؤلماً على مداخيل الطبقات المتوسطة وأكثر إيلاماً على الطبقات الفقيرة أو الأكثر هشاشة.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

ــ استغلّ التجّار دعم مصرف لبنان ليزيدوا استيراد السلع المموّلة بالدولار المدعوم من مصرف لبنان، سواء بواسطة قوّة الكارتيلات العاملة على خطوط استيراد هذه السلع أو بشراكة مع كارتيل المصارف وبعض مواقع النفوذ في مصرف لبنان. الإحصاءات الجمركية الرسمية تشير إلى أن حركة استيراد السلع المدعومة تطوّرت بشكل لافت في الأشهر الخمسة المذكورة، خصوصاً تجارة المشتقات النفطية. ففي الفترة الممتدة بين تشرين الثاني 2018 وآذار 2019، استورد لبنان بنزين ومازوت بقيمة 1233 مليون دولار، إلّا أنّه بين مطلع تشرين الثاني 2019 ونهاية آذار 2020 استورد ما قيمته 1969 مليون دولار (الزيادة الأساسية حصلت في أشهر تشرين الثاني 2019 وكانون الأول 2019 وكانون الثاني 2020). لا مبرّر لهذه الزيادة في الاستيراد. بل كان يُفترض أن يكون هناك انخفاض في استهلاك المحروقات بسبب الأزمة الاقتصادية أولاً، ثم التعبئة العامة والإغلاق المفروض بسبب انتشار «كورونا». التفسير الوحيد المتاح هو أن التجّار أو ما يسمّى كارتيل النفط، بكل فئاته من مستوردين وتجّار محليين وبائعي مفرق، كانوا يعملون على تخزين كميات إضافية من السلعة المدعومة أو ضخّوا قسماً منها في مسارات التهريب.
إذاً، هي فترة فاصلة بين استيراد السلع المدعومة بالدولار الحرّ من مصرف لبنان واستيراد السلع المموّلة بدولارات حرّة من السوق الموازية. وهي مؤشّر على مسار استعمال احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية الذي تراجع إلى 20,4 مليار دولار أي ما يوازي 8,2 أشهر من تمويل الاستيراد المدعوم لثلاث سلع: بنزين ومازوت، أدوية ومستلزمات طبية، وقمح.
وبموجب القرارات الأخيرة الصادرة عن مصرف لبنان ووزارة الاقتصاد، سيموّل مصرف لبنان سلّة متواضعة من السلع الغذائية والمواد الأولية للعلف وبعض الصناعات الغذائية بقيمة إجمالية تبلغ 940 مليون دولار، ما يعني أن احتياطات مصرف لبنان التي باتت تقلّ عن 20 مليار دولار لن تكفي أكثر من 5 أشهر وثلاثة أسابيع. طبعاً سيبقى هناك قدر من التدفّقات الآتية من تحويلات المغتربين لتغذّي الاحتياطات، إلّا أنّ المشكلة تكمن في غياب المعالجات. العلاج الوحيد المعمول فيه حالياً، سواء من السلطة نفسها التي ارتابت في سلوك حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أو من سلامة الذي اتهم السياسيين بإنفاق ودائع الناس التي استقطبها مصرف لبنان عبر المصارف، هو تحرير سعر صرف الليرة وطباعة النقود لضخّها في السوق المتداولة ما يترك التضخّم يتفاعل ليقضم المزيد من مداخيل الأجراء والمقيمين ويقذف أكثر من نصفهم إلى ما دون خطوط الفقر العليا ويقذف أكثر من ثلثهم إلى خطوط الجوع.