«زبط حساب السلّة الغذائية إنما اخترب بيت الفقير». هذه هي لعبة الرياضيات النقديّة الشريرة التي أرستها السياسات الاقتصادية في البلاد منذ انتهاء الحرب الأهلية. النتيجة بعد عقد كامل من بدء تعثّر النموذج القائم وأكثر من ستة أشهر على انتفاضة البلاد: معدّل تضخّم مخيف يضرب سوقاً متفلّتة أصلاً من الرقابة وخاضعة لسلطة الاحتكار ويُصيب مداخيل الفقراء والطبقة الوسطى برمّتها. بهذه المعادلة، تصبح أسعار السلع الغذائية الأساسية (سلّة مختارة من ست سلع غذائية ضرورية) ضعفي المعدّل السائد في بلاد الغرب، وثلاثة أضعاف البلدان المجاورة.يقضم التضخّم ميزانيات المقيمين في لبنان عبر ارتفاعٍ للأسعار أساسه محلّي نتيجة الإدارة النقدية الفاشلة، ومن خلال آليات السوق الاحتكارية المتروكة على سجيّتها تماماً كما تُركت الليرة تهوي في هبوط حرّ تمهيداً لتحريرها.
هذا التآكل للقدرة الشرائية ينعكس بالدرجة الأولى على السلع الغذائية الأساسية. ولتحديد هذا الانعكاس ومعرفة مداه، اعتمدت «الأخبار» على مقارنة الأسعار الأدنى السائدة في أسواق البيع الكبيرة لست سلع غذائية أساسية (البيض، الطحين، السكر، الأرز، لحم البقر، والزيت النباتي) مع أسعارها الرديفة في أسواق ستة بلدان أخرى.
()

الخلاصة كانت أن السوق اللبنانية، في ظلّ تعدّد أسعار الصرف وثبات الرواتب والأجور، تعاقب المقيم بلقمة عيشه؛ فالسلع الست المذكورة تُعدّ أغلى بنسبة 100% مقارنة بما هو سائد في فرنسا والمملكة المتّحدة والولايات المتّحدة وكندا، وبنسبة 150% من المعدّل في مصر والإمارات العربية المتّحدة. واللافت أن بعض السلع تسجّل فرقاً كبيراً في الأسعار بين لبنان وباقي الدول. فعلى سبيل المثال، يبلغ سعر لحم البقر الأرخص في السوق اللبنانية 20 دولاراً للكيلوغرام الواحد، فيما يتراوح سعره بين 6.5 دولارات و9.6 دولارات في باقي البلدان. كذلك يُعدّ سعر البيض في لبنان أغلى بنسبة 170% و100% مقارنة بأغلى وأرخص سعر مسجّل في الأسواق الست الأخرى.
يتمّ احتساب أسعار السلع في لبنان على اعتبار أن سعر الصرف يبلغ 1507.5 للدولار مقابل الليرة (السعر النظامي المحدّد من مصرف لبنان)، بينما السعر الفعلي السائد في السوق قد يصل إلى ثلاثة أضعاف السعر النظامي. وهذا الأمر يشمل الأجور والرواتب التي بقيت على مستوياتها السابقة، أي 675 ألف ليرة للحدّ الأدنى للأجور.
لكن في ظلّ إمكانات التذبذب المستمرّة بسبب تعدّد أسواق الصرف، يُمكن اعتماد فرضية سعر 3500 ليرة مقابل الدولار، أي السعر الذي حدّدته خطّة التعافي المالية من أجل مقاربة أكثر علمية لهذا التفاوت الحادّ في الأسعار. فباعتماد هذا السعر، تُصبح الصورة أكثر منطقية؛ سعر سلّة الغذاء في لبنان يصبح أقرب إلى سعر السلّة نفسها في الإمارات العربية المتحدة وأعلى بنسبة 12% من السعر السائد في مصر، فيما هي أغلى في الدول الغربية بفرق يتراوح بين 7%، في المملكة المتّحدة و22% في الولايات المتّحدة.
غير أن الاحتكام إلى سعر الصرف السائد في السوق الموازية (3500 ليرة مقابل الدولار) يُعدّ أكثر أدوات الحساب الاقتصادي ظلماً بحقّ ذوي الدخل المحدود، لأنه يعني أن الحدّ الأدنى للأجور بات يساوي 193 دولاراً أميركياً. وبالتالي فمن يتقاضون الحدّ الأدنى للأجور لن يكون بمقدورهم شراء سوى ست سلل غذائية في الشهر؛ ومع قياس معدّل استهلاك الوحدات الحرارية ومقارنته بباقي احتياجات تحضير الطعام، فهذا يعني أن الأجر بالكاد يغطّي أسبوعاً واحداً من غذاء العائلة اللبنانية وذلك من دون احتساب أي كلفة أخرى من متطلبات العيش من ثياب ونقل وعلم وصحة وترفيه. وعلى سبيل المقارنة، فإنّ الحد الأدنى للأجور في مصر هو أكثر بقليل من 300 دولار، ويُغطّي 25 سلّة غذائية هناك، أي تقريباً أربعة أضعاف المسجّل في لبنان.
تأتي هذه المأساة رغم التراجع المستمرّ في أسعار المواد الغذائية عالمياً بسبب انخفاض أكلاف الإنتاج. وفقاً لمؤشّر منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتّحدة، تراجعت الأسعار وسطياً بنسبة 3.4% في نيسان الماضي مقارنة بالشهر السابق، ليُسجّل المؤشر أدنى مستوى له منذ مطلع 2019 في ظلّ انهيار أسعار النفط وانخفاض الطلب الناتج من انتشار وباء كوفيد-19. هكذا يزحف الفقر إلى الطبقة الوسطى اللبنانية بعكس النمط العالمي، هنا لا شيء محسوم لمصلحة الضعيف، فهو غير قادر حتى على معرفة الخسارة اللاحقة بمداخيله لأن تقديرات التضخم لعام 2021 تبقى غامضة حتّى لصندوق النقد الدولي.