لبنان لا يهوى النفط الرخيص. فرغم أن سعر البرميل هبط هستيرياً في الفترة الأخيرة، ووصل في لحظة ما إلى ما دون الصفر، إلا أن الحكومة الحالية متمسكة بالرهان عليه، عبر تخصيص 150 مليون دولار لشراء بوليصة تأمين مقابل ارتفاع سعره المستقبلي. فقد أقرّ مجلس الوزراء، أخيراً، اقتراحاً مقدّماً من وزارة الطاقة على أنه استراتيجية للتحوّط، أي الاحتماء، من مخاطر تقلّبات أسعار المشتقات النفطية عبر شراء «عقود الخيارات» التي تُحدّد سقفاً للسعر عند 40 دولاراً للبرميل خلال الفصل الرابع من 2020 وكامل عام 2021.عقود الخيارات هي بمثابة بوالص تأمين للاحتماء من المضاربة أو التحولات الدراماتيكية في السوق. غير أن منطق ركون لبنان إليها في هذه المرحلة يبدو ضعيفاً. فاحتمال تخطّي سعر برميل النفط للحدّ الأقصى في الفترة التي تشملها «الخيارات» يُعدّ مستبعداً إلا في حالة حرب أو نموّ استثنائي نتيجة اكتشاف لقاح سريع لفيروس كورونا يفكّ حالة الحجر الكوني ويفتح الاقتصاد العالمي سريعاً.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

بهذا التأمين، تسعى الحكومة إلى تحقيق هدفين؛ الأول، تثبيت الحدّ الأقصى للأموال التي يستوجب تحويلها إلى مؤسسة كهرباء لبنان لتغطية عجز استيراد الفيول أويل على أن يبلغ 888 مليون دولار كحدّ أقصى. والثاني، استجداء رضى المؤسسات المالية الدولية في ظلّ تسليم عام بأن الخروج من الأزمة يمرّ عبر هذه المؤسّسات حتماً. إذ يقول القرار: «عادة، إن مثل هذه البرامج، يكون مرحباً بها من قِبَل صندوق النقد الدولي ووكالات التصنيف الائتماني العالمية».
غير أن تحديد العجز بهذه الطريقة يعدّ مكلفاً جداً في زمن شحّ الدولار، ما يثير تساؤلات عدّة حول صحّته المالية. فمنذ بداية عام 2020، يُسجّل الطلب على النفط تراجعاً متزايداً نتيجة وباء كوفيد-19 الذي فرض إغلاقاً شبه تام لنصف الكوكب تقريباً ومعه تقلّص الطلب على الوقود. الطلب سينتعش فعلاً عام 2021، ومعه الأسعار، إلا أن توقعات الحكومة نفسها تخالف منطق القرار الذي توصلت إليه. فهي تقول إن متوسط سعر برميل النفط خلال الربع الأخير من هذا العام سيكون 32 دولاراً، وإن المعدّل في الربع الأخير من عام 2021، هو 38.4 دولاراً. وبالتالي فإنّ كلفة الاحتماء من ارتفاع الأسعار تبدو باهظة جداً في ظلّ عدم وجود أسباب جديّة تدعو إلى الخشية منها. أليس من الأفضل تغطية فروقات الأسعار، إن حصلت، عوضاً عن الالتزام بمبلغ ثابت لجميع السيناريوات؟ أو حتى استثمار الأموال في إنتاج الطاقة البديلة لخفض الارتهان إلى النفط؟
من جهة أخرى، فإن صندوق النقد الدولي الذي تتطلّع إليه وزارة الطاقة والمياه ومعها مجلس الوزراء مجتمعاً، يتوقع في تقريره الأخير عن «آفاق الاقتصاد العالمي» أن يكون معدل سعر البرميل عند 35.61 دولاراً في 2020، و37.87 دولاراً في 2021. صحيح أن الصندوق يستند إلى معدّل مركّب من مزيج برنت وسعر برميل دبي/ فاتح وسعر الخام الأميركي، بينما تستند الحكومة إلى مزيج برنت فقط (وهو أغلى من الخليط)، إلا أن هذا الفرق لا يُفسِد في التحليل شيئاً لأن توقعات الصندوق لمزيج برنت وحده تفيد بأنه لن يتقلب دراماتكياً خلال السنوات الخمس المقبلة.
لكن يبدو أن للبنان حسابات مختلفة في زمن النفط الرخيص تنسحب على مسألة مهمة أخرى في فذلكة القرار الذي جرى تقديمه كتمهيد لسياسة تصحيح هيكلي في قطاع الكهرباء: الارتكاز إلى عجز مستقرّ ومحدّد يفتح المجال لتحديد احتياجات التقنين وحتّى إمكانية «تعديل متناسب في تعرفة مبيع الكهرباء».
فعلياً، القرار هو في صميمه إنفاقٌ لـ 225 مليار ليرة لبنانية (بحسب سعر الصرف الوهمي الذي يبدو أنه لا يزال قائماً بين وزارة المال ومصرف لبنان) يُمكن بسهولة توفيرها، لأن عدمه لا يُعدّ مقامرة كبيرة في زمن تراجع الطلب على النفط وسعره.
يمكن استخلاص الآتي: قد تكون هناك نيات إيجابية وراء هذا النوع من القرارات على مستوى الإدارة العامة والتعاطي مع الأسواق العالمية؛ أما في حالة الحكومة اللبنانية فهي واضحة بهدفها المحافظ: «حماية المالية العامّة للدولة من خلال التوصّل إلى موازنة أكيدة في ما يتعلّق بشراء النفط لإنتاج الكهرباء». غير أن هذه الحماية مكلفة جداً، ويبدو لبنان بالغنى عنها.