في عام 2011 بدأ يظهر عجز ميزان المدفوعات الذي يعبّر عن صافي عمليات خروج الأموال من لبنان ودخولها إليه. العجز يعني أن الأموال التي تخرج أكبر من تلك التي تدخل. وفي ذلك الوقت، تعاملت السلطات المالية والنقدية مع مسألة تسجيل عجز لسنة واحدة على اعتبار أنه أمر عادي نجم عن مفاعيل نزوح السوريين إلى لبنان هرباً من المعارك الدائرة في بلادهم، وأن مبرّرات هذا العجز ستنقضي في السنة التالية. غير أنه في نهاية عام 2015، تراكم العجز ليبلغ 9423 مليون دولار ما دفع مصرف لبنان إلى إطلاق عملياته المالية غير التقليدية المسماة «هندسات» بهدف إعادة تكوين احتياطاته بالعملات الأجنبية بعدما انخفضت إلى 30.6 مليار دولار في نهاية 2015 مقارنة مع 32.4 مليار دولار في نهاية 2014.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

هذه كانت المؤشّر الأول على بداية مسار الانحدار نحو الانهيار المالي. يومها كان حاكم مصرف لبنان رياض سلامة يتصرّف بسلطة مطلقة في كل القرارات المالية والنقدية. وبالاستناد إلى المؤشرات التي توافرت لديه، والتي لم يطّلع عليها أحد إلى اليوم، قرّر سلامة أن ينفّذ عمليات مالية مع المصارف بقيمة إجمالية بلغت 17 مليار دولار من ضمنها أرباح للمصارف بقيمة 5.6 مليارات دولار وأرباح تتجاوز 550 ميلون دولار لكبار المودعين. وهذه الهندسات لم تتوقف حتى منتصف عام 2019، وإن اتخذت أشكالاً مختلفة عن تلك التي نفذها في عام 2016. في تلك السنة تحسّن ميزان المدفوعات بشكل ظرفي وموقّت، ولكنه عاد إلى الارتفاع مجدداً ليسجّل عجزاً بقيمة 155.7 مليون دولار في عام 2017 وبقيمة 4823 مليون دولار في عام 2018 وصولاً إلى 3510 ملايين دولار في نهاية عام 2019.
أما المؤشّر الثاني للأزمة فكان في 17 أيار 2018 يوم نفّذ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ووزير المال علي حسن خليل هندسة من نوع جديد قضت بأن تصدر وزارة المال حصراً لمصرف لبنان سندات يوروبوندز بقيمة 5.5 مليارات دولار مقابل إطفاء سندات خزينة بالليرة اللبنانية يحملها مصرف لبنان في محفظته (كانت محفظته من السندات حبلى بالسندات التي حصل عليها مصرف لبنان من الهندسة الكبرى في صيف 2016). بهذه العملية كانت وزارة المال تخلق كتلة نقدية من الدولارات الوهمية وترفع حصّة الدين بالدولار من مجموع الدين العام من 38% إلى 44%. مصرف لبنان أدخل هذه السندات في محفظته على أنها دولارات طازجة حصل عليها وسجّلها إيجاباً في ميزان المدفوعات، أي إنه تلاعب بمكوّنات هذا الميزان لإخفاء المعطيات الحقيقية.
في هذا الوقت كانت السلطة «غاشية» عن أفعال سلامة، التي جرى قسم منها بالتنسيق مع وزراء المال المتعاقبين. كانوا يلتهون بالحديث عن مشاريع الموازنات العامة، وتفاصيل التقشّف الذي لم يلتزم أيّ منهم به وبنقاشات هامشية عن القطاع العام وضرورة خفضه... المصرفيون منهم كانوا مشغولين بعدّ الأرباح الناتجة من الهندسات. صحيح أن قسماً من الهندسات كان مخصصاً لمصارف بعينها كانت على وشك الإفلاس، إلا أن الثمن المدفوع لهذه العمليات كان كبيراً جداً. لو كشف سلامة عن الأرقام في ذلك الوقت (حتى الآن يرفض الكشف عن الأرقام)، لتبيّن بكل وضوح أن التوقف عن السداد كان يجب أن يكون في عام 2015 وأن الأزمة أعطتنا فسحة مالية طويلة لغاية 2018 ثم لغاية 2019.
بسبب هذه المكابرة وإنكار حقيقة أن النموذج الاقتصادي اللبناني آيل إلى الزوال، واصلت الخزينة تسديد الفوائد. بين عامي 2015 و2019 دفعت نحو 25 مليار دولار من ضمنها 9.5 مليارات دولار بالعملات الأجنبية، فيما كان عجز ميزان المدفوعات يتراكم ليبلغ في نهاية 2019 نحو 17.9 مليار دولار. ألم يكن الأجدى وقف النزف منذ ذلك الوقت؟ بسبب التوقف عن الدفع انخفض عجز الميزان التجاري بقيمة تصل إلى 4 مليارات دولار، وهذه القيمة كان يمكن تحقيقها اعتباراً من عام 2015، أي ما كان يوفّر على لبنان استيراد سلع غير ضرورية بما تصل قيمته إلى 20 مليار دولار. في ذلك الوقت كانت الفوائض المالية المتراكمة بالعملات الأجنبية قادرة على تلبية استيراد السلع الأساسية التي نواجه صعوبة في تمويلها اليوم. داخلياً استنزفتنا هذه الدفعات وابتلعت 48% من إيرادات الخزينة، ولم يكن بإمكان كل ما حصل أن يخلق نمواً اقتصادياً، واليوم لن نتمكن من تجاوز تقلّص الاقتصاد بسهولة لنبدأ رحلة البحث عن نموّ ما.