وأخيراً، تجرّأت الدولة على سلوك طريق التخلّف عن السداد وإعادة هيكلة الدين بعدما تدنّت الاحتياطات بالعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان إلى مستوى حرج وخطير. وعرض رئيس الحكومة حسان دياب، في خطاب علني، الخطوط العامة للخطّة التي ستُعرض على الدائنين أثناء التفاوض معهم: إعادة التوازن إلى المالية العامة أي تصفير العجز، إعادة هيكلة القطاع المصرفي، حماية صغار المودعين، تأمين موارد إضافية للإنفاق على التعليم والصحة والبنية التحتية، إقرار نظام ضريبي أكثر إنصافاً، وشبكة أمان اجتماعية لحماية الأشد فقراً، واستراتيجية وطنية لمكافحة الفساد.هذه الخطوط هي خلاصة الاجتماعات التي عقدتها لجنة الإنقاذ في السراي الحكومي حيث عرضت الكثير من الأفكار بشأن التعامل مع تداعيات هذا القرار على التعامل مع الدائنين الأجانب الذين يحملون 11.6 مليار دولار من سندات اليوروبوندز، والمصارف المحلية التي تحمل 12 مليار دولار من هذه السندات، ومصرف لبنان الذي يحمل 5.7 مليارات. إلا أن كل هذه الاجتماعات لم تتوصل إلى نتيجة حاسمة ونهائية.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

السبب هو انقسام فريق اللجنة إلى قسمين: حزب صندوق النقد الدولي، وحزب الحلّ الداخلي. كلّهم كانوا يدفعون في اتجاه إعلان التخلّف عن السداد، إلا أن أهدافهم لم تكن واحدة. حزب الصندوق يراهن على أن التخلّف لن يترك أمام الجميع سوى خيار اللجوء إلى الصندوق، فيما حزب الحلّ الداخلي يعتقد أنه مرغم على هذه الخطوة عاجلاً أم آجلاً وأنه بسبب حساسية ودقة المرحلة يجب البدء عاجلاً بهذه الخطوة.
من أين نبدأ؟ هناك دين حكومي إجمالي بقيمة 91.6 مليار دولار منه دين داخلي بقيمة 77.4 مليار دولار ودين خارجي بقيمة 14.2 مليار دولار. ويتوزّع هذا الدين بين 57.8 مليار دولار دين بالليرة اللبنانية و33.8 مليار دولار بالعملة الأجنبية. المصارف تحمل من مجمل هذا الدين نحو 28.7 مليار دولار منه نحو 12 ملياراً بالعملة الأجنبية. ومصرف لبنان يحمل نحو 33.6 مليار دولار منها 5.7 مليارات دولار بالعملة الأجنبية. والأجانب يحملون 11.6 مليارات دولار بالعملة الأجنبية.
وهناك نحو 7.5 مليارات دولار بالليرة محمولة من الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ومؤسسة ضمان الودائع، إلى جانب 2.1 مليار دولار من الدين بالعملة الأجنبية محمول من أطراف متفرقة.
إعادة هيكلة الدين سترتب خسائر على كل طرف بحسب حصّته من الدين وقيمة الاقتطاع التي يمكن أن تقوم بها الدولة. حتى الآن لم تتوصل لجنة الإنقاذ إلى احتساب النسبة المحدّدة للاقتطاع من الدين بالليرة وبالعملة الأجنبية، ولم تقرّر إذا كان مستوى الاقتطاع نفسه سيُفرض على الدائنين الأجانب والدائنين المحليين. وهناك تركيز على الدين بالعملة الأجنبية، وخصوصاً المحمول من جهات خارجية لأنه يستوجب معالجة خاصة ويضع لبنان أمام مقصلة التدويل لأن الدائنين الأجانب، مهما اعتبروا الدولة تعمل بنية حسنة سيرفعون دعاوى قضائية في المحاكم الخارجية في محاولة للحجز على أصولها ضماناً لديونهم.
وإعادة الهيكلة ستطلق عملية تصحيح واسعة بالاستناد إلى توزيع الخسائر. هذا هو محور الصراع اليوم. من يدفع الفاتورة؟ هل ستفرض الحكومة هيركات على الودائع؟ هل ستتمكن من إطلاق الاقتصاد؟ هل ستكفي الاحتياطات الحالية لتمويل استيراد السلع الأساسية؟. الوزير السابق شربل نحاس احتسب الاحتياطات الباقية بنحو 14 مليار دولار من ضمنها احتياطات إلزامية للمصارف مقابل الودائع، فهل تكفي؟ ما هي التسوية التي سيرضى بها الدائنون المحليون والأجانب؟ عملياً، ستكون هناك تسوية مع الداخل تتضمن إجراءات محاسبية لخفض ميزانيات المصارف من خلال شطب قيم متساوية من الأصول والالتزامات، وفي المقابل ستكون هناك مفاوضات مع الخارج للتوصل إلى اتفاق. المفاوضات ستكون صعبة وشاقّة وسط حملة تهويل حزب صندوق النقد، لكن مجرد إعلان إعادة الهيكلة يخفف الضغوط عن الحكومة في الدفع أملاً في إيجاد تسوية مع الدائنين.
كذلك، فإن إعادة الهيكلة وتسجيل الخسائر في القطاع المصرفي، ستطلق موجة أخرى من إعادة هيكلة مصرف لبنان الذي يحمل 76 مليار دولار من الالتزامات للمصارف بالعملات الأجنبية، ونحو 23 مليار دولار من الالتزامات بالليرة اللبنانية و18 مليار دولار احتياطات إلزامية.
وسط كل هذا الضجيج، لم يبدأ الحديث عن الاقتصاد ببعده النقدي (سعر صرف الليرة) وبأدوات وآليات استعادة النموّ، بعد رغم أنهما المسألة الأساسية التي يجب الالتفات إليها بوصفها المهمة الأصعب، لأنها يفترض أن تحمي المقيمين في لبنان من نتائج إعادة الهيكلة.