منذ فترة طويلة تمارس المصارف لعبة الامتناع عن الاكتتاب في سندات الخزينة بالليرة كلّما أرادت الضغط لزيادة أسعار الفائدة. في السنة الماضية، نجحت في زيادة معدلات الفائدة على السندات الجديدة من 7.46% إلى 10.5%، أما في مطلع هذه السنة، فكان الامتناع يهدف أولاً إلى زيادة أسعار الفائدة، ثم تحوّل لاحقاً إلى سلوك اضطراري ناجم عن نقص السيولة.تشير إحصاءات وزارة المال إلى توزّع المكتتبين في مزادات سندات الخزينة الأسبوعية (كل اثنين) خلال الفصل الثالث من عام 2019 (تموز، آب، وأيلول)، إلى أنّ حصّة المصارف من السندات المصدرة بلغت 1.4% من مجمل السندات، بينما بلغت حصّة مصرف لبنان 64.9%، وحصّة العامّة، وأكبرها الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي 33.3%.


وتأتي هذه النتائج في ظلّ ضغط على سيولة المصارف بالليرة مصدرها طلب الزبائن على سحب ودائعهم بالليرة لتحويلها إلى الدولار. في الواقع، ثمّة مسألة مهمّة ينبعي الالتفات إليها؛ فعندما يكتتب مصرف لبنان في سندات الخزينة مقابل إحجام المصارف عنها، هو يستعمل السيولة التي أودعتها المصارف لديه بفائدة مرتفعة. وبذلك، هو يحمّل ميزانيّته الخسائر الناتجة من فرق الفوائد بين المعدلات المنخفضة نسبيّاً على سندات الخزينة وبين المعدلات الأعلى التي يمنحها للمصارف مقابل هذه السيولة. بهذه الطريقة هو يحمي أرباح المصارف، لكنه في الوقت نفسه يخفي جزءاً من كلفة خدمة الدين داخل ميزانيّته. أرقام كلفة خدمة الدين العام تعكس الفوائد المدفوعة على سندات الخزينة، لكنّها لا تعكس الكلفة الأعلى التي يدفعها مصرف لبنان للمصارف.
امتناع المصارف عن الاكتتاب في سندات الخزينة، لا يعني دخول مصرف لبنان كلاعب بديل حصري، بل يعني أيضاً أن حصّة الصندوق الوطني من الضمان الاجتماعي في تمويل الدين ستزداد أيضاً ما يعني تحميله مخاطر إضافية مصدرها المخاطر المتزايدة على سندات الخزينة التي ارتفعت بشكل كبير بعد خفض تصنيف لبنان في آب الماضي إلى درجة (CCC) ليصبح الدين السيادي في لبنان مصنّفاً بهذه الدرجة من وكالتي «موديز» و«فيتش» (قبل أيام فيتش خفضت تصنيف لبنان مجدداً إلى CC).
هذه التطورات تثير الشكوك حول كلفة هذه المخاطر على أموال صندوق تعويض نهاية الخدمة في الضمان، خصوصاً أنّها ترتبط بحساسيّة خاصّة على المستوى المعيشي والاجتماعي. علماً بأنّ اكتتابات الضمان في سندات الخزينة مرتبطة بالسقوف المعتمدة لديه لتوزيع أموال المضمونين بين سندات الخزينة والحسابات المجمدة في المصارف.
على أيّ حال، يُظهر هذا النمط أولويات السياسات النقدية الرامية إلى حماية المصارف مهما كانت الانعكاسات على الأوضاع الاجتماعية وعلى الخزينة العامة لجهة كلفة الدين وفوائده. هذا الأمر تعزّز في تعميم مصرف لبنان الأخير الذي خفّض الفوائد على الودائع المصرفية من دون أن يخفض الفوائد على ودائع المصارف لدى مصرف لبنان. الأولويات لا تزال على حالها.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

وخلال شهرَي تشرين الأول وتشرين الثاني الماضيين، استمرّت عمليّة تمويل اكتتاب سندات الخزينة وفق النمط السابق، أي امتناع المصارف عن شراء سندات الخزينة مقابل انخراط مصرف لبنان والضمان الاجتماعي أكثر في هذا الأمر. اللافت في هذين الشهرين أن أسعار الفائدة على شرائح السندات سجّلت ارتفاعاً سريعاً خلال فترة زمنية قصيرة (من شهر لشهر). أعلى نسبة ارتفاع سجّلتها شريحة السندات التي تستحق خلال 12 شهر، تلتها شريحة السندات التي تستحق خلال 6 أشهر. ومن المفترض أن تنعكس هذه التطوّرات على كلفة خدمة الدين في الموازنة العامة.
خلال الفترة الماضية، كان ارتفاع معدّلات الفوائد في السوق المدفوع بهندسات مصرف لبنان، يُستعمل ذريعة لزيادة أسعار فائدة سندات الخزينة اللبنانيّة، لكن بعد لجوء المصارف إلى أدوات ضبط السيولة وحبس أموال المودعين، وخفض أسعار الفائدة من قبل مصرف لبنان، يصبح من الضروري السؤال عن سبب امتناع مصرف لبنان عن خفض أسعار الفائدة على ودائع المصارف لديه وشهادات الإيداع الصادرة عنه.