نشر الخبير في الشؤون المالية توفيق كسبار، على موقع «بيت المستقبل» ورقة عمل بعنوان «تشريح الأزمة النقدية». لا تكتفي هذه الورقة بتفسير ما حصل وأسبابه، بل تذهب أبعد في عمق النظام اللبناني وتسعى لتحميل المسؤوليات بالأسماء تبعاً لرأي الكاتب.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

فحاكم مصرف لبنان رياض سلامة يتحمّل اندلاع الأزمة النقدية القائمة بسبب لجوئه إلى هندسات مالية، أغرقت مصرف لبنان في الالتزامات بالعملة الأجنبية، وحوّلت صافي احتياطاته منها إلى «سلبي» بقيمة 48.9 مليار دولار. وفي الأسباب العميقة، يعدّ اعتماد سعر صرف لليرة ثابت مقابل الدولار في ظل سياسات مالية فضفاضة وغير خاضعة للرقابة، مصدراً للفساد السياسي والمظالم الاقتصادية التي شكّلت المحرك الأساسي للانتفاضة الشعبية المستمرّة. ويضيف كسبار عاملاً أساسياً يقف، في رأيه، وراء الصعوبات الاقتصادية التي يواجهها لبنان: «فقدان لبنان لسيادته». كسبار يعتقد أن إقرار حزب الله علناً بخضوعه أيديولوجياً وسياسياً وعسكرياً للمرشد الأعلى في الجمهورية الإيرانية، يعني أن قراراته السياسية والعسكرية الكبرى خاضعة لسلطة أجنبية وغير قانونية «لا يمكن أن تُبقي أي بلد مستقراً أو مزدهراً». لذا، يحتاج لبنان سريعاً إلى تنفيذ سياسات إصلاحية محدّدة لاحتواء الأزمة النقدية تستند إلى إجراءات ثلاثة: اعتماد موازنة مدّتها 3 سنوات 2020 - 2022 تهدف إلى خفض العجز تدريجياً حتى تحقيق التوازن عام 2022، مُساءلة مصرف لبنان عن سياسة «الهندسة المالية» بهدف خفض كلفة أسعار الفائدة المرتفعة جداً، إصلاح القطاع العام مع قيام جميع المؤسسات العامة بتقديم ونشر بياناتها المالية المدقّقة، وهو أمر موجب وفقاً للقانون.

12

مليار دولار هي القيمة الإجمالية للإئتمان الممنوح للقطاع الخاص التي خفّضتها المصارف منذ نهاية عام 2017 حتى نهاية أيلول عام 2019


لم يشهد لبنان سابقاً مثل الانتفاضة الشعبية التي يشهدها اليوم. فهذه الانتفاضة انتشرت مثل النار في الهشيم لتصبح عابرة للأديان والشرائح الاجتماعية والمناطق. إن الشعارات التي رفعها المتظاهرون والمطالب التي تقدموا بها تشير بوضوح إلى أن المحرك الأساسي للانتفاضة ينبع من المظالم الاقتصادية وفساد الطبقة الحاكمة الكامن وراءها: غياب فرص العمل وانخفاض المداخيل والبطالة والفقر.
وفي سياق تدنّي النموّ الاقتصادي وارتفاع الدين الحكومي، تشير هذه المظالم إلى الفشل الذريع الذي مُنيت به سياسة الحكومة الاقتصادية، وإلى المشاكل الهيكلية الخطيرة التي يعاني منها الاقتصاد اللبناني والتي تتطّلب معالجتها وقتاً طويلاً.
ومع ذلك، فإن موضوع هذه الورقة هو الوضع المالي المتدهور، لأنه الأكثر إلحاحاً، لا سيما الوضع النقدي مع الانخفاض الذي تشهده قيمة الليرة اللبنانية لأول مرة منذ عام 1999. ويعتبر هذا التطور محورياً، إذ أن الانخفاض الكبير في قيمة العملة سوف يفاقم حالة الفقر لدى معظم اللبنانيين، وينطوي على عواقب اجتماعية وسياسية، نجهل حتى الآن مآلاتها لكننا على دراية أنها ستكون خطيرة.
تتضمن هذه الورقة أربعة أقسام، سيستعرض أولها الظروف التي أدت إلى انخفاض قيمة الليرة اللبنانية، ويحلل ثانيها الأسباب الأساسية وراء الأزمة، فيما يناقش ثالثها عواقب هذه الأزمة وذيولها، ليقدم رابعها السياسات التي نوصي باعتمادها لاحتوائها.

1 - الطريق إلى تدهور الليرة
لا يكون سعر الصرف الثابت مستداماً إلا إذا كانت إنتاجية الاقتصاد وأنماط الاستهلاك والمبادلات مع الخارج تتوافق مع سعر الصرف الثابت هذا، وإلا سيُظهر ميزان المدفوعات عجزاً بشكل دائم، ما يعني أن خروج العملات الأجنبية التي عادةً ما تكون بالدولار الأميركي تتجاوز تدفقها (نحو الداخل)، ما يؤدي تالياً إلى انخفاض متواصل في احتياط النقد الأجنبي. من الصعوبة بمكان الحفاظ على سعر صرف ثابت في اقتصاد صغير ومنفتح مثل اقتصاد لبنان، خصوصاً مع سياساته المالية والنقدية الفضفاضة.
من الواضح أن السياسات المالية قد فشلت منذ أوائل التسعينيات. يتبيّن ذلك من العجز المالي الكبير المستمر والدين الحكومي الذي يتزايد، ومن السياسة النقدية التي يتّبعها المصرف المركزي والتي تعتمد على اقتراض العملات الأجنبية من المصارف المحلية بأسعار فائدة مرتفعة بشكل غير اعتيادي. وأسفر ذلك عن تقييد النشاط الاقتصادي وإضعاف الوضع المالي للمصارف، الأمر الذي ضغط في نهاية المطاف على سعر صرف الليرة اللبنانية.
اليوم، بدأت الأزمة المالية تتكشّف في لبنان. قيمة الليرة اللبنانية باشرت بالانخفاض فعلياً في أيلول عام 2019، أي قبل أسابيع عدّة من اندلاع الانتفاضة الشعبية. عمد الصيارفة تدريجياً إلى تداول الدولار بأسعار أعلى من السعر «الرسمي»، لكن كبار المسؤولين اللبنانيين اعتمدوا سياسة الإنكار، رافضين الاعتراف بحقائق السوق الواضحة. لذلك لا يزال سعر الصرف «الرسمي» قائماً، ولكن مع وجود عدد قليل من المعاملات المصرفية وفقاً لسعر صرف يتراوح بين 1500 و1.515 ليرة لبنانية مقابل الدولار الواحد.
إذاً، للمرة الاولى بات يوجد في لبنان سوقان متوازيتان لصرف العملات الأجنبية، مع اعتماد الصيارفة سعراً لصرف الليرة مقابل الدولار يتراوح بين 1600 و1800 ليرة لبنانية، أي بمعدل انخفاض لقيمة الليرة بلغ 12% تقريباً. وللمرة الأولى أيضاً أقدمت المصارف، أخيراً، على تقييد تحويل العملات الأجنبية إلى الخارج.

بين عامي 1993 و2018 أنفقت الحكومات 244 مليار دولار، 8% منها للنفقات الاستثمارية وأكثر من ثلثيها وبالتساوي لتسديد فوائد الدين والأجور وتوابعها


لم يكن هذا الأمر وليد ساعته، فمنذ سنوات كانت بعض المؤشرات تُظهر بوضوح الضغط المتزايد الذي تتعرض له الليرة. احتياط مصرف لبنان بالعملات الأجنبية كان يواصل انخفاضه، رغم سياسة الاقتراض الثابتة من المصارف التي اعتمدها بأسعار فائدة مرتفعة لم تشهد السوق مثيلاً لها. وأدى ذلك الى تدهور مثير للقلق تجلّى بالوضع السلبي لصافي الأصول الأجنبية.
وفي ظاهرة لا تقلّ أهميّة، يسجّل ميزان المدفوعات عجزاً منذ عام 2011، ما يؤشّر إلى خروج أموال احتياط العملات الأجنبية باستمرار أكثر من تدفقها إليه. ويعتبر هذا الأمر سابقة لأنه منذ الاستقلال وحتى عام 2010، لم يشهد لبنان عجزاً في ميزان المدفوعات لفترة دامت أكثر من سنتين متتاليتين.
بعد ذلك، أصبح الضغط على سعر الصرف واضحاً عندما عمد مصرف لبنان قبل بضعة أشهر وكجزء مما يُسمى «الهندسة المالية»، إلى رفع أسعار الفائدة على الاقتراض بالدولار من المصارف المحلية إلى 11% لمدّة ثلاث سنوات. ارتفع العائد الإجمالي للمصارف إلى 18% بعدما قدّم مصرف لبنان إلى المصارف المقرضة بالتزامن مع ذلك مكافأة إضافية بنسبة 7%.
تجدر الإشارة إلى أن هذا الأمر حدث في وقت كانت فيه الأسواق العالمية تشهد تراجعاً في أسعار الفائدة، وحتى إلى فائدة سلبية كما هو الحال في ألمانيا واليابان وسويسرا.

2 - الأسباب
في تعاطيها مع الأمور المرتبطة بالمخاطر المالية، اعتادت وسائل الإعلام في لبنان كما التصريحات الرسمية التركيز على الدور السلبي لعجز الموازنة والدين الحكومي، مسلّطة الضوء، في المقابل، على الدور الإيجابي لمصرف لبنان في مواجهة هذه المخاطر. إلا أنني أعتقد، ومن اعتراف بمسؤولية العجز المالي والدين الحكومي في تدهور الوضع المالي في لبنان، أن مسؤولية السياسة النقدية التي اعتمدها مصرف لبنان عن ذلك متساوية إن لم تكن أكبر.
إن جوهر السياسة النقدية لمصرف لبنان يتمثّل في تراكم احتياط العملات الأجنبية للدفاع عن سعر الصرف الثابت، وهي سياسة منطقية ومفهومة في نظام قائم على سعر صرف ثابت. لكن مصرف لبنان، بدأ وخصوصاً مع عمليات «الهندسة المالية» التي أعلنها، باقتراض مبالغ كبيرة بالدولار من المصارف المحلية بمعدلات فائدة سخيّة وغير مبرّرة استمرت بالارتفاع تدريجياً. إن هوامش أسعار الفائدة التي يدفعها مصرف لبنان لمدة 6 أشهر بالنسبة إلى المعدلات المرجعية الدولية كمرجعية ليبور (سعر الفائدة السائدة على الدولار بين مصارف لندن)، تجاوزت 5%، وتتجاوز الآن 9%، وهذه كلفة كبيرة يدفعها مصرف لبنان، بدلاً من أن يدفع هامشاً يساوي جزءاً من 1%.
علاوة على ذلك، لم يحقق مصرف لبنان أي هدف من الأهداف المعلنة لـ«هندسته المالية»، بل على العكس، تراجع احتياط العملات الأجنبية لديه، وبات ميزان المدفوعات يسجل عجزاً متواصلاً منذ عام 2011، وأصبحت الميزانية العمومية للمصارف معرّضة للخطر.
إن ديون مصرف لبنان (بالدولار فقط ومن دون احتساب ديونه بالليرة اللبنانية) تُقدّر بأكثر من 87 مليار دولار، وهي منفصلة تماماً عن الدين الحكومي وباتت اليوم تتجاوزه.
الأكثر خطورة، هو أن مصرف لبنان يدفع حالياً كلفة الفائدة على قروضه بالدولار من المصارف مبلغاً سنوياً يُقدر بنحو 6 مليارات دولار، وهو مبلغ يتجاوز بكثير كلفة الفائدة على الدين في الموازنة. بعبارة أخرى، إن المصدر الرئيسي لاستنزاف احتياط العملات الأجنبية في البلاد هو مصرف لبنان وبشكل مستقلّ تماماً عن الموازنة العامة.
أَنْ يعيش المرء بمستوى يفوق قدراته المالية لسنوات وسنوات ما يشكل لبّ معظم أزمات انخفاض قيمة العملة، باستثناء ربما البلدان التي تكون عملتها الوطنية عملة احتياط دولي. ويعتمد لبنان منذ زمن بعيد نمط عيش يتخطى قدراته، ويبدو ذلك جلياً في استمرار عجز ميزان المدفوعات والموازنة العامة.


منذ أوائل التسعينيات والحكومات اللبنانية المتعاقبة تعمل وفق موازنات عامة لا تستند إلى الإجراءات القانونية اللازمة. والمشكلة الرئيسية في العجز المالي وارتفاع الدين الحكومي تكمن في كونهما استُخدما لتمويل النفقات الجارية بدلاً من النفقات الاستثمارية. فبين عامي 1993 و2018، بلغت النفقات الحكومية نحو 244 مليار دولار لم يذهب منها إلى تمويل النفقات الاستثمارية سوى 8% ، فيما ذهب أكثر من ثلثيها وبالتساوي إلى تسديد الفائدة على الدين العام، وعلى الأجور وتقديمات ذات صلة.
في موازاة ذلك، شهد القطاع العام انتفاخاً في عدد موظفيه نتيجة للتعيينات السياسية، حتى بات ساحة لتعزيز السلطة السياسية والإثراء الشخصي، ومعظم هؤلاء يدينون بالولاء للسياسيين، بدلاً من أن يكون ولاؤهم للشعب ولخدمته. وفي عام 1975، كانت نسبة العمالة في القطاع العام تبلغ 10% من إجمالي العمالة في لبنان وارتفعت في التسعينيات لتصل إلى 12%، أما اليوم فيرجّح أن تكون قد تجاوزت الـ25%.
السبب الرئيسي وراء الصعوبات الاقتصادية والمالية في لبنان يكمن في أنه فقد سيادته. وهذا ما تُعبر عنه حال حزب الله الذي اعترف زعيمه علناً أنه يخضع في أيديولوجيته ووجوده السياسي والعسكري إلى المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية. ويتعذر على أي بلد أن يحافظ على استقراره وازدهاره إذا كانت قراراته السياسية والعسكرية خاضعة لسلطة أجنبية أو غير قانونية، ولا يمكن لهذا الوضع الشاذ أن يؤدي إلا إلى عدم الاستقرار السياسي والفقر الاقتصادي. إن السمة الأساسية لأي دولة فاعلة ومزدهرة هي احتكارها لوسائل التدمير ولوسائل الاستهلاك، أي القوة العسكرية والمال.
وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الدولة اللبنانية لا تحتكر أياً منهما. إن فقدان الدولة لسيادتها ترك آثاراً سلبية جلية ومستدامة على جوانب عدة من الحياة الاقتصادية، بما في ذلك الاستثمارات المحلية والأجنبية، والمساعدات والسياحة.

3 - النتائج
إن الوضع المصرفي والنشاط الاقتصادي هما الأكثر تضرّراً من الأزمة المالية التي تتفاقم في لبنان منذ سنوات عدّة. فقد أدّت هذه الأزمة إلى هشاشة الأوضاع المالية للمصارف وحولت التمويل المصرفي من المؤسسات الخاصة إلى مصرف لبنان.
إن طبيعة عمل المصارف المركزية هي إقراض المصارف التجارية بدلاً من الاقتراض منها. ولكن يتبيّن أن 71% من أصول المصارف التجارية هي قروض للقطاع العام، منها 58% لمصرف لبنان، وهذا أمر غير اعتيادي. وتلازم ذلك مع تطور آخر هو انخفاض كبير في الأصول والسيولة بالعملات الأجنبية للمصارف، في دلالة على أنها تحوّل أموالها من المصارف المراسلة في الخارج لإقراض مصرف لبنان.
من البديهي القول إن هذا الوضع يُعتبر، بأي معيار، غير صحي بالنسبة للمصارف ويجعلها عرضة للتأثّر بتدهور المالية العامة للقطاع العام، وهنا تكمن أكبر المخاطر الناتجة عن «الهندسة المالية» التي نفّذها مصرف لبنان.
وفي سياق متصل، ظهر تطوّر آخر، وهو قيام المصارف بخفض الائتمان إلى القطاع الخاص بالقيمة المطلقة والنسبية من أجل إيداع أموالها لدى مصرف لبنان رغبة في الحصول على أرباح أكبر.
منذ نهاية عام 2017 حتى نهاية أيلول من عام 2019، كشفت الميزانية العمومية الموحّدة للمصارف التجارية، أن هذه المصارف خفّضت إجمالي الائتمان للقطاع الخاص بما يعادل 12 مليار دولار، وذلك بعد احتساب الفائدة المتراكمة. والأخطر من ذلك، أنه في أوائل تشرين الثاني عام 2019، جمّدت المصارف الاستفادة من جميع خطوط الائتمان وقيّدت تحويل الأموال بالدولار الأميركي إلى الخارج، في خطوة تُعتبر الأولى من نوعها منذ استقلال لبنان.
«المصرف المركزي» اقترض من المصارف 85 مليار دولار ويدفع لها سنوياً 6 مليارات دولار فوائد ولديه 38.5 ملياراً فقط


وتتحمل المصارف مع مصرف لبنان مسؤولية كبيرة في هذا الشأن، إذ أنها تعمد منذ سنوات إلى خفض سيولتها بالدولار، عبر تحويل احتياطاتها بالدولار من المصارف المراسلة إلى مصرف لبنان، منجذبة إلى أسعار فائدة مرتفعة جداً مقارنة مع الأسعار الدولية.
السبب الرئيس الكامن وراء هذه التطورات، هو أسعار الفائدة التي يدفعها مصرف لبنان للاقتراض من المصارف. أسعار الفائدة المرتفعة التي اعتمدها المصرف المركزي تسلّلت إلى النظام المصرفي نفسه. وفي بيئة تقترب فيها نسبة النمو الاقتصادي من الصفر، نجد أن أسعار الفائدة على الائتمان المصرفي للقطاع الخاص تبلغ أكثر من 11% تقابلها نسبة فائدة حقيقية بنحو 6%، أدّى ذلك إلى ازدياد مطّرد في عدد المؤسّسات الخاصة التي أقفلت أبوابها، وإلى تباطؤ النشاط الاقتصادي.
الخطر الأكبر والمتنامي هو ذاك الذي يطاول سعر صرف الليرة اللبنانية الذي انخفض فعلياً في السوق الموازية، وإن كان بنسبة ضئيلة ما زالت حتى اليوم تدور حول 12%، لكن استمرار انخفاض سعر صرف الليرة ستكون آثاره مدمّرة على معظم اللبنانيين الذين يتقاضون رواتبهم ومعاشاتهم التقاعدية بالليرة اللبنانية، كما أن مدّخراتهم هي أيضاً بالليرة اللبنانية، مع ما يترتب على ذلك من عواقب اقتصادية واجتماعية وسياسية محفوفة بالمخاطر. ويبدو أن المسؤولين السياسيين والماليين عاجزون تماماً عن مواجهة هذه التطورات، مع عدم وجود ما يدل على أنهم بصدد وضع سياسات أو خطط لمواجهة هذه المخاطر.

4 - احتواء الأزمة
قد يكون من الصعوبة بمكان وقف انخفاض سعر صرف الليرة اللبنانية، ولكن من الممكن التحكّم بمستوى هذا الانخفاض وبالتالي تجنّب تطوّر خطير يصيب الحياة الاقتصادية الاجتماعية والسياسية في البلاد. وأي سياسات احتواء يجب أن تستند إلى مبدأين: اعتماد نهج شامل للإصلاح وتعزيز الحوكمة، ويعني ذلك بشكل أساس تعزيز المُساءلة.
وفي ما يلي سياسات محدّدة تتطلّب دعماً من الرؤساء الثلاثة وإجماعاً سياسياً والإسراع في تنفيذها بعد إعلانها أمام الملأ:
أ - وضع موازنة عامة لثلاث سنوات، 2020 - 2022، تلحظ تناقصاً تدريجياً للعجز للاقتراب قدر الإمكان من تحقيق التوازن في عام 2022.
على التدابير التصحيحيّة أن تتضمن زيادات طفيفة في الضرائب والرسوم، وأن تعتمد بشكل أساس على خفض النفقات الضخمة أو الهدر واسترداد مداخيل الموازنة التي لم تحصل. فعلى سبيل المثال، يبقى إجمالي إيرادات الموازنة من الاتصالات وضريبة القيمة المضافة والجمارك بين الأعوام 2011 - 2019 على ما كان عليه بين عامي 2009 - 2010 أي ما يقارب 5 مليارات دولار، وهذا أمر غير طبيعي لا سيما مع ارتفاع اجمالي الناتج المحلي خلال الفترة نفسها بنسبة تتخطى 35%. إن إعادة مسار تحصيل الإيرادات في هذه البنود إلى «طبيعته» من شأنها تحقيق إيرادات سنوية إضافية تبلغ نحو ملياري دولار، من دون أي زيادة في الضرائب أو الرسوم. أما بالنسبة إلى مؤسسة كهرباء لبنان التي استنزفت بشكل كبير المالية العامة لفترة طويلة من الزمن، فالخطوة الأولى هي طلب تدقيق خارجي سريع للحسابات.
وهناك تدبير مالي آخر ذو أهمية كبيرة، وهو عودة العمل كما في السابق إلى نظام حساب الخزينة الموحّد والذي يقضي بإعادة الودائع النقدية إلى جميع المؤسسات العامة، من المصارف إلى حسابات وزارة المال في مصرف لبنان. في عام 2019، بلغ متوسط هذه الودائع في المصارف ما يقارب 4.7 مليارات دولار، ويمكن تالياً تمويل عجز الموازنة داخلياً من هذه الودائع، حتى بسعر فائدة ضئيل، من دون الحاجة إلى الاقتراض من الأسواق المالية.


بالتزامن مع انخفاض العجز في الموازنة، ستنخفض أسعار الفائدة بشكل كبير مع توفير مماثل في كلفة الفائدة لبضع سنوات على الأقل. ونكرّر مرة أخرى، أنه يمكن تحقيق ذلك من دون أي زيادة في الضرائب أو الرسوم.
ب- مُساءلة مصرف لبنان عن «الهندسات المالية» التي أجراها وأسعار الفائدة المرتفعة التي اعتمدها.
أسفرت السياسة النقدية المكلفة التي اعتمدها مصرف لبنان، عن تزايد الخسائر عبر السنوات، خصوصاً مع انخفاض أسعار الفائدة على القروض بالدولار في الأسواق العالمية. لم ينشر مصرف لبنان بيانات الأرباح والخسائر منذ عام 2002، ومن المهم مُساءلته حول السياسة النقدية التي اعتمدها وإعادة النظر فيها بهدف خفض أسعار الفائدة المرتفعة وغير المبرّرة التي يدفعها، وبالتالي القضاء على منظومة أسعار الفائدة المرتفعة التي تقيّد جميع المدينين وتُعيق الأنشطة الاقتصادية، كجزء من سلّة الإصلاحات، وبدءاً بمصرف لبنان، نقترح منظومة جديدة من نسب فوائد تنافسية (انظر الجدول).
ج - على جميع المؤسسات العامة تقديم بياناتها المالية المدقّقة ونشرها
وهذا الأمر مفروض عليها بحكم القانون، لكن غالبية المؤسسات العامة لا تنشر أو حتى لا تقدّم هذه البيانات المدقّقة أو غير المدقّقة (الميزانية العمومية وبياناتها: الأرباح والخسائر) إلى وزارة المال. ونذكر بشكل خاص المؤسسات العامة التالية: مصرف لبنان، مؤسسة كهرباء لبنان، مجلس الإنماء والإعمار، الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، كازينو لبنان وشركة طيران الشرق الأوسط... الشركتان الأخيرتان هما من حيث المبدأ شركات خاصة، لكنهما مملوكتان إلى حدّ كبير من قبل مصرف لبنان وتخضعان لسيطرته؟
هذه التوصية «الفنية» البسيطة يمكنها أن تحسّن أداء الإدارة بشكل ملحوظ. فتوفير البيانات المالية المدقّقة للمؤسسات العامة يؤمّن للمسؤولين وللرأي العام والمجتمع المدني خصوصاً، فرصة الاطلاع على الحقائق الموثّقة، ما يتيح وسيلة مهمة لمراقبة الأداء الفعلي للسلطات الرسمية ومُساءلتها. وهذا جانب مهم جداً من الممارسة الديمقراطية.
القطاع العام في لبنان (الوزارات والمؤسسات) بحاجة ماسّة إلى مراجعة وإصلاح، لكن البلاد تحتاج قبل كل شيء إلى استعادة السيادة السياسية كخطوة أولى نحو عملية إصلاح سياسي واقتصادي حقيقية. إن الإجراءات المقترحة تهدف بشكل خاص إلى احتواء الأزمة النقدية المتعاظمة، والتنفيذ الشامل والسريع أمر أساسي، وأي إجراءات أخرى خارج هذا السياق لن تكون سوى ضوضاء.

* خبير مالي وأستاذ محاضر في الاقتصاد
إن مضمون الورقة المنشورة لا يعكس بالضرورة الرأي الرسمي لمؤسسة «بيت المستقبل»، ولا يعكس أيضاً رأي «الأخبار»، بل هو يُعبّر عن رأي وتحليلات الكاتب وحده.
ملحق
إن منظومة نسب الفوائد المعتمدة في لبنان مكلفة جداً ولا يمكن الاستمرار بها. فعندما تكون نسبة النمو الحقيقي الاقتصادي تتجاوز الصفر، تصبح عندها نسبة فائدة الاقتراض من المصارف التي تتعدى 11% (ونسبة الفائدة الحقيقية أكثر من 6%) مؤذية، فتقفل المؤسسات وينحسر النشاط الاقتصادي كما يحدث حالياً.
على نسب الفوائد أن تتدنى بشكل ملموس وكجزء من سلة الإصلاحات المقترحة لاحتواء الأزمة. إن نسب الفوائد التنافسية هي غالباً بالدولار، ونسبة إلى الفائدة المرجعية ليبور لتسعة أشهر، والتي هي حالياً نحو 2%.