من تابع صرخات الناس في الأيام العشرة الماضية التي هزّت لبنان، لا بدّ أن يكون قد تنبّه إلى هذا المنسوب المرتفع من الغضب على المصارف والديون والسياسات النقدية والضريبية. ولكن ما بدا نافراً أن كثيرين لم يكتفوا بالتعبير عن غضبهم من ارتفاع كلفة الديون العامة، أي الديون التي يتم تسديد الفوائد عليها في الموازنة وتستنزف نصف الإيرادات (معظمها ضرائب تسدّدها الأسر نفسها) وأكثر من ثلث الإنفاق (الذي لا تحصل الأسر إلّا على القدر اليسير منه)، بل عبّروا أيضاً، بطرق مختلفة، عن الإرهاق الشديد من العبء الضخم لديونهم الشخصية التي أُجبروا على تحمّلها لتوفير المسكن أو الحصول على التعليم أو الاستشفاء أو سدّ العجز بين الأجور المتدنية وكلفة المعيشة المرتفعة أو شراء السيارات والمفروشات. تمدّنا الإحصاءات الصادرة عن مصرف لبنان بالمعلومات التالية:- إن أكثر من 128 ألف أسرة في لبنان مديونة للمصارف بقيمة 12.7 مليار دولار لشراء مساكنها، في ظلّ غياب أي بديل آخر متاح في السياسات السكنية المعتمدة وتشجيع المضاربات على أسعار الأراضي لرفع أسعارها وجذب الاستثمارات من الخارج إليها.
- وهناك أكثر من 11 ألف أسرة مديونة للمصارف بقيمة تتجاوز 200 مليون دولار لتعليم أولادها، في ظلّ تدني جودة التعليم العام وتخصّص الجامعات الخاصة ذات الأقساط المرتفعة في تأهيل الطلّاب لأسواق العمل في الخارج.
- ويوجد 73 ألف شخص اشتروا سياراتهم بالديَّنْ، وهم مدينون للمصارف بقيمة 964 مليون دولار، بسبب عدم ترك خيار لهم للتنقّل غير السيارة الخاصة، في ظلّ غياب أي وسائل فعّالة للنقل العام تعمل بكفاءة وبكلفة مقبولة.
- فضلاً عن أكثر من 521 ألف قرض شخصي (قروض استهلاكية وبطاقات ائتمان وقروض المفروشات) بقيمة 6.8 مليار دولار، تتميّز بكلفة فائدة هي الأعلى بالمقارنة مع أنواع القروض الأخرى، وقد اضطر هؤلاء المقترضون، ولا سيّما معيلي ومعيلات الأسر، إلى مراكمة هذه الديون الضخمة في ظلّ نموذج همجي يشجّع على تمويل الاستهلاك بالدَّيْن بديلاً عن رفع الأجور وسياسات إعادة توزيع الثروة والدخل. وفي حين كانت أسر كثيرة مُجبرة على الاستدانة لتمويل حاجات ضرورية، كالاستشفاء وتأثيث المنازل وسدّ العجز في ميزانية المعيشة وأحياناً لسدّ ديون أخرى، جرى استدراج الكثيرين أيضاً للاستدانة لتمويل حاجات كمالية، مثل شراء المجوهرات أو السفر وحتى إجراء عمليات التجميل، في ظل فورة استهلاكية مدفوعة بالتحويلات من الخارج.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

منذ سنوات قليلة، أقرّ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بوجود مخاطر كبيرة مترتبة على ارتفاع ديون الأسر. صرّح في عام 2012 أن «معدّل مديونية الأسر للمصارف يبلغ 55% من دخلها»، وقال إن «أي تحرّك يطرأ على أسعار الفوائد يمسّ ملاءة الأسر اللبنانية مباشرة». ولكن سلامة لم يفعل شيئاً للحدّ من هذه المخاطر، بل أمعن في تطبيق السياسات النقدية غير التقليدية بالتزامن مع التقشّف في الإنفاق العام على البنية التحتية والخدمات الأساسية والأجور الاجتماعية، وعمد إلى التوسّع في عملياته مع المصارف، ولا سيّما عبر دعم الفوائد على القروض السكنية وتقديم تسليفات للمصارف (طبع العملة) بفائدة 1% لإعادة تسليفها إلى الأسر والمؤسسات بفوائد أعلى. وبالتالي جعل اعتماد الأسر على الديون مزمناً. في هذا الوقت، سجّلت ديون الأسر ارتفاعاً مطرداً بوتيرة سريعة، وارتفعت أسعار الفائدة وباتت تتسبّب بنزف كبير لدخل الأسر والاقتصاد، وهذا النزف هو من الأسباب الرئيسة لشعور الأسر ذات الدخل المتوسّط بالضيق والقلق من استمرار الانحدار في مستوى معيشتها وخسارة رهونها العقارية (المساكن) أو ممتلكاتها المرهونة لهذه الديون. وما عمّق هذا الشعور هو دخول الاقتصاد اللبناني في حالة انكماشية مديدة، وهذا لا يعني فقط فقدان الوظائف وانخفاض الأجور، بل يعني أيضاً انخفاض أسعار المساكن والممتلكات، ما جعل قيمة هذه «الثروات» الشخصية الصغيرة أقل من قيمة الديون التي راكمتها الأسر في مقابلها.
الآن، نحن في مواجهة مباشرة مع هذه المعضلة، ولكن، كالعادة، هناك إنكار تامّ لها، ويتم التصرّف إزاءها كما لو أنها غير موجودة أو باستطاعة الأسر أن تتحمّلها إلى ما لا نهاية من دون تدخّل من الدولة. هذه الأسر معرّضة لخطر فقدان كل شيء كلّما تعمّق الانكماش وطال أمده، وهو ما ينبئ به بوضوح ما سمّي «الورقة الإصلاحية» التي ستؤدي إلى موجة من حبس الرهون والإفلاسات، وهذا لن يضرّ فقط آلاف الأسر، بل الاقتصاد برمّته وكذلك سلامة النظام المصرفي نفسه.
حان الوقت لوضع الأمر على الطاولة، فهذه الانتفاضة التي تحمل لواء العدالة الاجتماعية في مواجهة الطبقة الأوليغارشية المالية تمثّل فرصة للقيام بذلك، وعليها أن ترفع مطلب إلغاء الديون المرهقة والجائرة، ولا سيّما قروض الطبقات الوسطى والفقيرة السكنية والتعليمية، ليس لإنقاذ هذه الأسر فحسب، بل لأن ذلك سيعود بالنفع على الاقتصاد والمجتمع، فالذين يكافحون اليوم لدفع الأقساط والفوائد سيصبح بمقدورهم أن ينفقوا ويساهموا في الاقتصاد الحقيقي، وسيساهم إلغاء جزء كبير من عبء الديون الهائل في إنهاء التقشّف على مستوى الاقتصاد الكلي.
هذه إحدى الطرق المباشرة لمعالجة الأزمة المالية واستيعاب صدمة الانكماش الاقتصادي، لمن يبحث جدّياً عن معالجة عادلة. وتوجد طرق عدّة ووسائل كثيرة يجري نقاشها في بلدان مختلفة للقيام بهذا الأمر، ويمكن أن يكون المدخل بإنشاء صندوق مموّل من جزء من أرباح الهندسات المالية. طبعاً، الحديث هنا يخصّ حصراً ديون الأسر المتدنية والمتوسّطة الدخل وذات الكلفة الباهظة التي تستنزف جزءاً مهمّاً من هذا الدخل، ولا يشمل بأي شكل من الأشكال ديون الأسر الميسورة والثرية.