تصرّ بعض التحليلات المُشاعة على ربط كل تطوّر مالي سلبي في لبنان بعوامل ظرفية خارجية في محاولة لنفي ترابط هذه التطوّرات كسلسلة تداعيات ناتجة عن أزمة مالية ونقدية طويلة الأمد.ولعلّ أحد أبرز الأمثلة عن هذه التحليلات ظهر في الأيام الماضية، إذ تمّ ربط زيادة الشحّ في السيولة بالدولار في السوق اللبنانية وارتفاع سعر الصرف لدى الصرّافين بظاهرة توسّع تهريب المحروقات إلى سوريا بسبب العقوبات عليها. ووفق هذا التحليل، يساهم شراء المحروقات لتهريبها إلى سوريا في إخراج السيولة بالعملات الأجنبيّة من لبنان، وزيادة عجز ميزان المدفوعات، وبالتالي الضغط على سعر صرف الليرة واستقرار النظام النقدي اللبناني. في الواقع، يعاني هذا التحليل من مشكلة كبيرة من ناحيتَين: أوّلاً من ناحية منطق العمليّات التجارية في الأسواق، وثانياً من ناحية المؤشّرات الاقتصادية التي يسجّلها هذا القطاع بالتحديد.


من ناحية المؤشّرات، صحيح أن حجم واردات المحروقات سجّل في النصف الأول من هذا العام رقماً قياسياً مقارنة بالسنوات السابقة، ويعود ذلك طبعاً إلى توسّع عمليات تهريب المحروقات إلى سوريا خلال هذه السنة وسياسة التقنين في المحروقات التي يعتمدها النظام هناك. وقد بلغ حجم المحروقات المستوردة إلى لبنان في النصف الأول من هذا العام 6 ملايين طن، بالمقارنة مع 2.71 مليون طن فقط في الفترة نفسها من العام الماضي. ويعدّ هذا الحجم من الاستيراد كبيراً ولكنّه ليس فريداً، إذ سبق أن بلغ نحو 4.95 مليون طن في النصف الأول من عام 2017، ولم يُسفر عن شحّ للدولار في حينه.
ما يعزّز فرضية عدم ارتباط شحّ الدولار باستيراد المحروقات وإعادة تصديرها إلى سوريا، أن قيمة المحروقات المستورَدة في النصف الأول من هذا العام البالغة نحو 3.33 مليار دولار ليست الأعلى على الإطلاق بالمقارنة مع السنوات الماضية. فعلى سبيل المثال، بلغت قيمة المحروقات المستوردة في النصف الأول من عام 2014 مستوى مماثلاً بلغ نحو 3.3 مليار دولار. وفي الفترة نفسها من عام 2012، تجاوزت قيمة المحروقات المستوردة هذا الرقم، إذ بلغت 3.64 مليار دولار. بمعنى آخر، وعلى الرغم من أن حجم المحروقات المستوردة بلغ مستويات قياسيّة في أوّل ستة أشهر من السنة، فإن قيمة هذه المحروقات لا تُعتبر الأعلى خلال السنوات الأخيرة، ويعود ذلك تحديداً إلى اختلاف سعر النفط في الأسواق. وبالتالي، من غير المنطقي اعتبار ارتفاع حجم المحروقات المستوردة لصالح السوق السورية في هذه السنة مسألة داهمة وطارئة، يمكن أن تتسبّب بشحّ الدولار في الأسواق.
ثمّة خلل كبير في هذا التحليل أيضاً من ناحية منطق العمليّات التجارية في الأسواق. فقيام التجّار باستيراد المحروقات إلى لبنان لتوريدها إلى سوريا، يفترض في المقابل وجود تدفّقات مالية مقابلة من سوريا لسداد قيمة هذه البضاعة، وهو ما ينفي أيّ أثر لهذه العمليات على مستوى ميزان المدفوعات. مع العلم أن احتساب ميزان المدفوعات لأيّ دولة يأخذ في الاعتبار التدفّقات المالية الحاصلة بجميع العملات. بمعنى أن تسديد ثمن استيراد المحروقات وقبض ثمن إعادة تصديرها إلى سوريا لا يجب أن يكون سلبياً على ميزان المدفوعات.
في الواقع، ليست التطوّرات الأخيرة في سوق القطع سوى حلقة إضافية من حلقات أزمة مالية ونقدية مستمرّة منذ عام 2011، وهي أزمة أبعد من مسألة إعادة تصدير المحروقات إلى سوريا وأكثر تعقيداً. فإحجام المصارف عن توفير السيولة بالدولار لعمليّات القطع يرتبط أوّلاً بتقشّف مصرف لبنان في السقوف الممنوحة للمصارف لهذه الغايات تحديداً، وبسياسات حبس السيولة بالعملة الصعبة لديه، وذلك بعد الضغط المتنامي على السيولة بالعملات الأجنبية بفعل تطوّرات الأزمة الحالية محلّياً وفي الخارج. وكلّ هذه التداعيات الناتجة عن الأزمة بعيدة كلّ البعد عن مسألة تهريب المحروقات إلى سوريا.