اختارت جمعية المصارف الأسبوع الماضي أن تدقّ ناقوس الخطر، وتحذّر من ظاهرة ارتفاع أسعار الفوائد في السوق اللبنانية، لا سيّما أن هذه الظاهرة باتت تضغط بقسوة على ربحيّة المصارف، بسبب انخفاض الفارق بين متوسّط الفوائد التي تدفعها للمودعين ومتوسّط عوائد توظيفاتها لهذه الأموال. فحتى شهر أيار/ مايو الماضي، انخفض هذا الفارق لغاية 0.96% بالنسبة إلى الودائع والتوظيفات بالدولار، بالمقارنة مع 2.04% في شهر تموز/ يوليو من العام الماضي، علماً أن الفارق انخفض إلى 0.56% بالنسبة إلى الودائع والتوظيفات بالليرة بعدما كان يراوح 0.78% في شهر تموز/ يوليو من العام الماضي. ولعلّ هذا الانخفاض تحديداً هو الذي قاد أرباح مصارف مجموعة ألفا (المصارف الأكبر) إلى الانخفاض بنسبة 8% في الربع الأوّل من هذا العام، وهو تحوّل قرأته جمعية المصارف جيّداً.وبينما تبدو الجمعية مصيبة حتماً في تقديرها لدرجة خطورة هذه الظاهرة على هامش أرباح المصارف، تبدو من الناحية الأخرى مصرّة على تجاهل الأسباب الفعلية التي تقف خلفها. فالتعميم الذي صدر عن الجمعية اعتبر أن تزايد الفوائد في سوق بيروت غير مُبرّر من ناحية السيولة، التي اعتبرها «جيّدة»، بينما علّل ارتفاع الفوائد بوجود مجموعة من المصارف «غير الملتزمة»، في إشارة إلى وجود تفاهمات سابقة على وضع سقوف للفوائد وعدم امتثال جميع المصارف بهذه السقوف.


الخلل الأول في تشخيص الجمعية يكمن في عدم اعترافها بوجود أزمة سيولة بالعملة الصعبة تضغط على معدّلات الفوائد بشكل منطقي وفق آليّات العرض والطلب. فوفقاً لأرقام مصرف لبنان، ولغاية شهر أيار/ مايو الماضي، شهدت الموجودات الخارجية للمصارف اللبنانية تغييراً سلبياً في أربعة من أصل خمسة أشهر، مع العلم أن هذا المؤشّر يعكس تحديداً موجودات المصارف من العملة الصعبة. وفي المحصلة، بلغ صافي الانخفاض في الموجودات الخارجية للمصارف الخاصة في الأشهر الخمسة الأولى من هذا العام 2.118 مليار دولار أميركي، مع الإشارة إلى أن مصرف لبنان بدوره شهد انخفاضاً في موجوداته الخارجية بقيمة 3.073 مليار دولار في الفترة نفسها. وإذا جمعنا الانخفاضات التي شهدتها المصارف الخاصّة ومصرف لبنان في الموجودات الخارجية لغاية شهر أيار/ مايو، تكون النتيجة انخفاضاً بقيمة 5.19 مليار دولار، وهي تحديداً حصيلة العجز في ميزان المدفوعات في الأشهر الخمسة الأولى من السنة الحالية (وهو مستوى قياسي بجميع المقاييس).
وفي ظل شحّ السيولة بالعملة الصعبة، يصبح طبيعياً أن تأخذ الفوائد على الودائع هذا المنحى التصاعدي، بينما يصبح تنقّل العملاء بحثاً عن الفوائد الأفضل مسألة بديهية وفقاً لآليات عمل الأسواق. أمّا ما هو غير منطقي، فهو ادعاء جمعية المصارف أن إجراءات وضع سقوف لارتفاع الفوائد مسألة مجدية في هكذا ظروف، أو أن عدم امتثال مجموعة من المصارف لهذه السقوف هو السبب الفعلي وراء ظاهرة ارتفاع الفوائد. أما الأكثر غرابة، فهو إصرار التعميم على افتتاح التشخيص بالحديث عن سلامة وضع السيولة، وهو ما تنفيه جميع المؤشرات الموجودة.
بالإضافة إلى كل ما ورد، قادت أزمة تناقص الموجودات الخارجية في القطاع المصرفي إلى هندسات جديدة أطلقها مصرف لبنان، شكّلت بدورها ضغوطاً إضافية على معدّلات الفوائد. فوفقاً لآلية عمل هذه الهندسات، يُعدّ تحويل الأموال إلى الخارج خطوة كافية لتحقيق شروط الاستفادة منها ونيل الفوائد المرتفعة (تشترط الآليّة أن يكون مصدر الأموال من الخارج). لكن تعميم الجمعية أصرّ مجدّداً على تجاهل كون الآلية نفسها تتيح التسبّب بهذه الضغوط، ليركّز فقط على التوصية بضرورة التزام المصارف شروط الاستفادة من هذه الهندسات.
بالنتيجة، وسواء في ما يتعلّق بأزمة السيولة وتبعاتها على الأسواق المالية، أو في ما يتعلّق بهندسات مصرف لبنان التي ترتبط بدورها بأزمة السيولة نفسها، يبتعد تعميم جمعية المصارف عن التعاطي مع الخلفية الفعلية التي تدعم المنحى التصاعدي لمعدّلات الفوائد، في انسجام تام مع كل التحاليل التبسيطية التي يتمّ تقديمها يومياً عن الأزمة الموجودة وخلفياتها.