لطالما شكّلت تحويلات المغتربين اللبنانيين أحد العناصر الأساسية في تمويل الاستهلاك منذ حقبة ما بعد الحرب، حتى أصبح متعاداً التذكير بوجود هذه التحويلات في التقارير الاقتصاديّة والتصريحات، بوصفها عنصر اطمئنان ومصدراً مستداماً للتدفّقات المالية ولو تذبذب حجمها. لطالما شكّل «تصدير الأدمغة» لقاء الحصول على تحويلاتهم مصدر معاناة للأسر على المستويين الاجتماعي والإنساني، إلّا أن ظاهرة الإدمان على هذه التحويلات تركت أيضاً آثارها السلبية على بنية الاقتصاد اللبناني.عام 2008 بلغ حجم هذه التحويلات وفق أرقام البنك الدولي نحو 7.18 مليار دولار، وهو ما شكّل في حينها ما يقارب ربع الناتج المحلّي الإجمالي في تلك السنة (29.28 مليار دولار). لقد ساهم حجم التحويلات الكبير مقارنة بحجم الاقتصاد اللبناني بتغذية فائض التحويلات الخارجية التي رفدت لبنان ومصارفه بالعملة الصعبة، التي يحتاج لها لضمان ثبات سعر الصرف وتمويل الدَّيْن العام بالعملة الصعبة، في ظل ضعف النشاط الإنتاجي والعجز الكبير في الميزان التجاري.
وعلى الرغم من ارتفاع عدد المهاجرين منذ ذلك الوقت، إلّا أن حجم التحويلات تذبذب لكن من دون أن ينخفض إلى أقل من 6.7 مليار دولار (وهو أدنى مستوى وصل إليه في عام 2012) ومن دون أن يرتفع أكثر من 7.6 مليار دولار (المستوى الأعلى له في عام 2016). علماً أن حجم التحويلات كان يتأثّر بالأوضاع الاقتصادية في بلدان المهجر، وباستقرار الوضع المحلّي في لبنان.


في عام 2018، بلغ حجم هذه التحويلات نحو 7.2 مليار دولار، وهو ما يقارب المستوى الذي وصلت إليه في عام 2008. إلّا أن الناتج المحلّي خلال السنوات العشر الماضية، ارتفع من 29.28 مليار دولار عام 2008 إلى 56.64 مليار دولار عام 2018، ما أدّى إلى انخفاض نسبة هذه التحويلات من الناتج المحلّي الإجمالي من نحو الربع إلى 12.7%. ما قلّص من قدرة هذه التحويلات بالمقارنة مع حجم الاقتصاد المحلّي وحاجاته للعملة الصعبة.
فخلال هذه الفترة، ومع نمو حجم الاقتصاد المحلّي، توسّع العجز في الميزان التجاري من 12.66 مليار دولار عام 2008 إلى 17.03 مليار دولار عام 2018، وهو ما يعطي صورة أوضح عن تزايد التحدّيات التمويلية محلّياً بالمقارنة مع محدودية حجم تحويلات المغتربين. ولعلّ هذه المحدودية بالذات كانت أحد العوامل التي أدّت إلى تفاقم أزمة ميزان المدفوعات خلال السنوات الماضية إلى جانب عوامل أخرى، قبل أن تنفجر الأزمة بقوّة هذه السنة على خلفيّة الشكوك بقدرة النظام المالي على الصمود.
لا يكمن أصل المشكلة في عدم قدرة هذه التحويلات على النموّ بشكل متناسب ودائم مع نمو الاقتصاد المحلّي، خصوصاً أن نسبة هذه التحويلات من الناتج المحلّي لا تتخطّى 1.52% في الدول المتوسّطة الدخل، و0.75% على مستوى العالم، وهو ما يعني أن ارتفاع هذه النسبة في الحالة اللبنانية يشكّل الاستثناء الصريح. لا بل تكمن المشكلة في الاعتماد طوال الفترة السابقة على هذه التحويلات - إلى جانب مصادر أخرى للتدفّقات المالية من الخارج - لتعزيز النمط الاقتصادي الريعي المُدمن على هذا النوع من التدفّقات المالية، على حساب خلق نشاط اقتصادي منتج.
فوفق تقرير صادر عن «بنك الاعتماد اللبناني»، ساهمت تحويلات المغتربين وحدها في تمويل 21.12% من نمو الودائع بين عامي 2002 و2016، وهو ما يؤكّد وفق التقرير نفسه دور هذه التحويلات في المحافظة على نموّ مستقر في الودائع. أمّا النتيجة الفعلية فكانت توظيف هذه التحويلات في طفرة القطاع المالي السابقة، والتي نحصد الآن نتائجها من خلال الأزمة القائمة اليوم. وهو ما جعل من هذه التحويلات فرصة ضائعة كبرى، إذ كان من الممكن الاستفادة منها للاستثمار في القطاعات المنتجة، للخروج من دوّامة العجز التجاري المزمن.