في العام الماضي، حوّل مصرف لبنان مبلغاً إلى خزينة الدولة يساوي 60 مليار و425 مليون ليرة، أو ما يعادل 40 مليون دولار، وهو المبلغ نفسه تقريباً الذي يحوّله كلّ سنة منذ 9 سنوات، إذ لم تتغيّر قيمته إلّا ضمن هامش ضيّق، وتراوح بين 39.8 مليون دولار كحدّ أدنى و40.5 مليون دولار كحدّ أقصى.وفق أحكام المادة 113 من قانون النقد والتسليف، يتوجّب على مصرف لبنان أن يوزّع ربحه الصافي السنوي بنسبة 20% للاحتياط العامّ و80% للخزينة. وبالتالي، يُفترض أن مبلغ الـ40 مليون دولار، الذي يحوّله إلى الخزينة كلّ سنة، يمثّل حصّتها القانونية من أرباحه الصافية. إلّا أن تدقيقاً بسيطاً في عدد من المؤشّرات يدحض هذه الفرضية، ويبيّن أن هذه العملية المُتكرّرة سنوياً، أي تحويل مبلغ مقطوع إلى الخزينة، ليست إلّا إحدى الوسائل التي يجري عبرها إخفاء حسابات مصرف لبنان الحقيقية وطمس خسائره المُتراكمة في ميزانيته واستخدام المال العام (الضرائب والديون وطبع العملة) كأدوات للسياسة النقدية والهندسات المالية المُكلِفة ودعم لأرباح المصارف ومودعيها.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

لا يخالف مصرف لبنان أحكام المادة 113 فقط، بل أطاح بأحكام كثيرة نصّ عليها قانون النقد والتسليف من أجل تقييده وإخضاعه للرقابة السياسية والقانونية، ومنها المادة 117 التي تُلزمه بنشر ميزانيته وحساب الأرباح والخسائر وتقرير عن عمليّاته في السنة المُنصرمة، وذلك في مهلة أقصاها شهر تموز/ يوليو من كلّ سنة. ولكنّه لم ينشر في الجريدة الرسمية في السنوات العشرين الماضية إلّا 3 تقارير، وهي لا تستوفي شروط هذه المادة، وتتعلّق بالأعوام 2015 و2016 و2017 فقط، وتمّ نشرها تحت عنوان «مشهد السياسة النقدية لمصرف لبنان». اللافت أن هذه التقارير تتضمّن جدولاً بعنوان «بيان المركز المالي»، حيث ورد في خانة النتائج (أرباح) رقم «صفر» للسنوات الثلاث المذكورة. أي أن مصرف لبنان لم يحقّق أي ربح، وبالتالي لا يتوجّب عليه تسديد أي مبلغ للخزينة! وهذا دليل «موثّق» على عدم شفافية الحسابات التي ينشرها مصرف لبنان، بما في ذلك أرباحه وقيمتها وحصّة خزينة الدولة منها.
إلّا أن الأدلة لا تنحصر في هذه التقارير الثلاثة الفريدة، فلو كانت حصّة الخزينة التي يحوّلها مصرف لبنان من أرباحه الصافية كل سنة صحيحة ومطابقة للقانون، فهذا سيعني أنه يحقّق ربحاً صافياً ثابتاً لا يتغيّر منذ عام 2010، يبلغ نحو 50 مليون دولار في السنة، ويوزّع بنسبة 80% على الخزينة (40 مليون دولار) وبنسبة 20% للاحتياط العام (10 ملايين دولار). لو هذا صحيح، فلا شكّ أنه مستغرب، ليس لأن هذه الفرضية مُستبعدة كلّياً في الظروف المُتقلِّبة التي يمرّ بها الاقتصاد اللبناني والمتغيّرات الكثيرة محلّياً وفي الخارج وارتفاع كلفة تثبيت سعر الصرف، بل لأن حجم ميزانية مصرف لبنان تضخّم في هذه الفترة، من 53.7 مليار دولار في نهاية عام 2009 إلى 140.6 مليار دولار في نهاية عام 2018، أي ارتفع بنسبة 262%، وتنامى حجمها من 151% من مجمل الناتج المحلّي في عام 2009 إلى 248% حالياً، وهو حجم ضخم بكلّ المقاييس. وفي الفترة نفسها، ازدادت قيمة القروض التي منحها مصرف لبنان للقطاع المصرفي، من نحو 1.2 مليار دولار إلى نحو 33.6 مليار دولار، أي بزيادة نسبتها 2800%، وهذه القروض يُفترض أنها تدرُّ ربحاً من الفائدة (مهما كانت مُخفّضة). والأهمّ أن مصرف لبنان تحوّل في هذه الفترة إلى الدّائن الأكبر للحكومة، فتضاعفت حصّته من مجمل سندات الخزينة بالليرة اللبنانية، من أقل من 23% في نهاية عام 2009 إلى أكثر من 50% في نهاية عام 2018، وبات مصرف لبنان يستحوذ وحده على أكثر من 35% من مجمل الدَّيْن الحكومي، وباتت الفوائد التي يتقاضاها من الخزينة العامّة تقدّر بأكثر من 1.8 مليار دولار سنوياً وتمثِّل مصدر دخله الأهمّ.
انطلاقاً من هذه المؤشّرات، تُقدّر أرباح مصرف لبنان بين عامي 2010 و2018 بأكثر من 12 مليار دولار من الفوائد على سندات دَيْن الحكومة فقط، من دون احتساب مصادر ربحه الأخرى، وفي مقدِّمها طبع العملة وإقراض المصارف والمتاجرة بالعملات الأجنبية، فضلاً عن نشاطاته الأخرى وملكيّاته لشركات عدّة، أهمّها شركة طيران الشرق الأوسط التي أعلنت أنها حقَّقت أرباحاً بقيمة تتجاوز 1.1 مليار دولار بين عامي 2002 و2017. ولكن، مصرف لبنان لم يحوّل من أرباحه هذه إلى خزينة الدولة بين عامي 2010 و2018 سوى 361.6 مليون دولار، بمعدّل وسطي يبلغ 40.2 مليون دولار سنوياً. أي أن الخزينة لم تسترد سوى 2.5% من الأرباح التي منحتها لمصرف لبنان في هذه الفترة.
في الواقع، لا يحقِّق مصرف لبنان أي أرباح بل يراكم خسائر متتالية منذ سنوات طويلة، ويبذل جهوداً حثيثة لإخفائها. ومنذ أكثر من عقد، لم تعد أرباحه تكفي لتمويل آلة الضخّ الضخمة التي صنعها لدعم أرباح المصارف وأسعار الفوائد السخيّة وشراء الدعم السياسي والدعاية الإعلامية. وسنة بعد سنة كانت حاجة مصرف لبنان تزداد لاستخدام المال العام في هذه العملية المُكلِفة، وتكفي الإشارة إلى أن مصرف لبنان لعب بين عامي 2009 و2018 دور «المُقرِض الأخير» للحكومة والمصارف والقطاع الخاص، فهو لا يدعم أسعار الفوائد المرتفعة على القروض والودائع معاً فحسب، بل يقوم بطبع العملة وإقراض المصارف بفائدة مُخفّضة (1% و2%) لتعيد توظيفها كودائع لديه بفوائد مرتفعة (10.5% حالياً) وتجني الأرباح المجانية، وكذلك عمد إلى امتصاص سيولة المصارف عبر إصدار شهادات إيداع بفائدة أعلى من سندات الخزينة، فانخفضت حصّة المصارف من الدَّيْن الحكومي بالليرة اللبنانية من نحو 61% في عام 2009 إلى 34% حالياً، في حين ارتفعت حصّة مصرف لبنان من هذا الدَّيْن من 23% إلى 51%، وفي الوقت نفسه ارتفعت ودائع القطاع المصرفي لدى مصرف لبنان من 31% من مجمل الموجودات إلى 54%، وباتت تكلّفة تسديد فوائد باهظة تتجاوز كثيراً ما يجنيه من مدفوعات الفوائد من الخزينة العامّة.