اختارت الحكومة اللبنانية التقشّف في مواجهة الأزمة القائمة وفقاً للشروط التي وضعها المانحون في مؤتمر «سيدر»، وذلك بهدف تعزيز مساحة أوسع في الميزانية العامّة، خدمةً للدَّيْن العام وتقليصاً للمخاطر المُتعلِّقة بالدَّيْن السيادي على الدائنين. وعلى الرغم من أن التقشّف، ولا سيّما في الإنفاق الاستثماري، يتناقض مع المصلحة الاقتصادية الوطنية على المدى الطويل ومزاعم خلق بيئة مناسبة للنشاط الإنتاجي، إلّا أن المؤشّرات الماثلة، اليوم، تدل على أنه سيكون سبباً إضافياً في تعميق الأزمة على المدى القصير. إذ إن المؤشّرات التجارية الصادرة حديثاً تدل على ركود قاسٍ من النوع الذي لا يؤدّي فيه التقشّف إلّا إلى المزيد من الانكماش الاقتصادي. ففي النظرية الاقتصادية «الكينزية»، ثمّة علاقة وطيدة بين السياسات التقشّفيّة وخفض الاستثمار في الموازنات العامّة، وبين تعميق الركود والانكماش الاقتصادي خلال الأزمات الاقتصادية الحادّة، خصوصاً أن التقشّف عملياً يعني لجم السيولة، وبالتالي خفض الاستهلاك والطلب في الأسواق.

يحاول «مؤشّر جمعية تجّار بيروت – فرنسبنك تجارة التجزئة» أن يعكس المنحى الذي تأخذه الحركة التجارية لمؤسّسات تجارة المفرّق (التجزئة)، من خلال عيّنة تمثّل قطاعات تجارية مختلفة وأحجاماً مختلفة من المؤسّسات. ويُراقَب النموّ أو التراجع الذي تشهده حركة مبيع هذه المؤسّسات عبر مقارنة الرقم النهائي الذي يعكسه المؤشّر خلال فصل معيّن مع الأرقام الذي سجّلته في الفصول المماثلة من السنوات السابقة، أو من خلال مقارنته بالفصل السابق مباشرةً.
على سبيل المثال، تعكس الأرقام تراجع المؤشّر من 46.31 نقطة خلال الفصل الأوّل من السنة الماضية إلى 44.24 في الفصل الأوّل من هذه السنة، وهو ما نتج تحديداً من تراجع كبير بنسبة 7.21% في أرقام أعمال قطاعات التجزئة اللبنانية (بعد احتساب أثر التضخّم)، وإذا استثنينا قطاع المحروقات، يتبيّن أن نسبة التراجع في مستوى أعمال هذه القطاع بلغت 9.15% بين الفترتين. ومن اللافت خلال هذا الفصل، أن التراجع في حجم الأعمال شمل أيضاً قطاعات ذات طابع معيشي، مثل قطاع السوبرماركت والمواد الغذائيّة بنسبة 14.51%، وقطاع المخابز بنسبة 9.04%، مقارنةً بالفترة نفسها من العام الماضي.
أمّا مراجعة أرقام المؤشّر خلال فترة زمنية أطول، فتظهر تراجعاً مخيفاً من 89.66 في الفصل الأوّل من عام 2013 إلى 46.31 نقطة في الفترة نفسها من هذا العام، ما يعني أن المؤشّر خسر 48% من قيمته خلال هذه الفترة، وهو ما يشير إلى تراجع الحركة التجاريّة خلال السنوات الست الماضية.


هذا الركود الواضح في الأسواق، تعكسه كذلك أرقام مؤشّر مديري المشتريات الرئيسي الذي يعدّه «بنك لبنان والمهجر»، الذي يحاول تتبع نشاط المؤسّسات عبر مراقبة مجموعة من المؤشّرات مثل حجم الطلبيّات الجديدة ومستوى الإنتاج والتوظيف والمخزون وتسليمات المورّدين. ولفهم نتيجة المؤشّر خلال فترة معيّنة، تُقارَن النتيجة بمستوى 50 نقطة، باعتباره مستوى محايداً لا يعكس أي تراجع أو تقدّم في حجم أعمال الشركات، وبالتالي أي ارتفاع يسجّل فوق الـ50 نقطة يعني تحقيق تقدّم في حجم أعمال هذه الشركات، والعكس صحيح.
في الواقع، المرّة الأخيرة التي سجّل فيها المؤشّر مستوى يتجاوز الـ50 نقطة (بما يعكس تقدّماً في حجم أعمال الشركات) كان في حزيران/ يونيو 2013، ومنذ ذلك الوقت، كان يسجّل مستويات متفاوتة تحت مستوى الـ50 النقطة. والتفاوت تحت مستوى الـ50 نقطة ليس إلّا تفاوتاً في حجم التراجع بين شهر وآخر، من دون أن تسجّل الشركات أي زيادة في حجم أعمالها في أي شهر منذ تلك الفترة. وخلال الأشهر الخمسة الماضية، كان المؤشّر يعكس نمط التراجع نفسه في حجم أعمال الشركات، إذ راوحت الأرقام بين 46.8 و46.9 نقطة.
تؤكّد هذه المؤشّرات نمط الركود الذي يُنذِر بانكماش اقتصادي صعب تشهده الأسواق، وهو ما يتناقض جذرياً مع جميع النظريّات التي ترى أن التقشّف وسيلة لدفع الوضع الاقتصادي في البلاد إلى الأمام. وهو مجرّد دليل إضافي على أنّ السياسات الحكومية الراهنة لا تسير وفق خطّة مدروسة لتحقيق أهداف مالية واقتصادية مُحدَّدة، بل تعمل وفق إجراءات غبّ الطلب لتناسب متطلّبات المانحين أو مخاوف الدائنين من دون النظر إلى المصالح الاقتصادية الأوسع.