في السجال الدائر حول الموازنة العامّة، يتمّ التركيز على ضرورة إجراء «الإصلاحات» التي يترقّبها الدائنون والمانحون من لبنان، وفي طليعتها الإجراءات التقشّفية المطلوبة في الموازنة العامّة. ينطلق هذا السجال من تصوّر مُعيّن للأزمة القائمة، جرى تسويقه بإصرار في تصريحات المسؤولين واللاعبين الرئيسيين، وهو تصوّر يختصر المشكلة في كونها أزمة مالية عامّة، مُرتبطة بالعجز في الموازنة والدَّيْن العام وحجمهما قياساً إلى حجم الاقتصاد اللبناني، وبالتالي يفترض هذا التصوّر تلقائياً أن التقشّف هو الطريق البديهي للخلاص من الأزمة، ولعلّ أبرز من عبّر عن ذلك هو حاكم مصرف لبنان، الذي أطلق في شهر آذار/ مارس الماضي في مؤتمر «الحوكمة الرشيدة في القطاع العام»، تصريحات تدعو إلى «خفض حجم القطاع العام» كشرط لتحسين الاقتصاد اللبناني، مُعتبراً أن المصرف المركزي يقوم «بجميع واجباته للحفاظ على الاستقرار»، أمّا الحكومة فلا تقوم بواجباتها.لا يوجد خلاف اليوم في كون تضخّم الدَّيْن العام الناتج عن العجز المُزمن في الميزانية العامّة شكّل دائماً أحد عوارض أزمة النموذج الاقتصادي القائم منذ التسعينيات، لا بل كان أحد الآليّات الرئيسة لعمل هذا النموذج وترسّخه على مدى أكثر من ربع قرن. وفي كلّ الحالات، شكّلت هذه المسألة، أي تضخّم الدَّيْن العام، مشكلة قائمة بذاتها تستنزف الموارد والمداخيل. ولكن، هل الأزمة التي يواجهها المقيمون في لبنان هي أزمة عجز مالي مُزمن فقط، وبالتالي يمكن التصدّي لها وتجاوزها بالتقشّف وتخفيض الإنفاق وتقليص القطاع العام؟

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

يتوقّع وزير المال، في تقريره عن مشروع موازنة عام 2019، أن تبلغ نسبة الدَّيْن العام إلى الناتج المحلّي الإجمالي نحو 152.6% في هذا العام، وهو ما يُعدّه البعض إحدى علامات تفاقم الأزمة. لكن لبنان شهد، لمدّة 8 سنوات متتالية، بين عامي 2001 و2008، نسبة مديونية تتجاوز ما هو متوقّع لهذا العام بأشواط، فقد ارتفعت باطراد من 46% في 1993 لتبلغ 160% في 2001 وتصل إلى 183% في 2006، وهي أعلى نسبة بلغها الدَّيْن العام من الناتج المحلّي، قبل أن تنخفض إلى 131% في 2012، ثمّ تعاود ارتفاعها إلى المستوى الحالي. أمّا على مستوى نسبة عجز الموازنة من الناتج المحلّي، فقد بلغت 11.4% في السنة الماضية، وهي نسبة مرتفعة جدّاً، ولكنّها ليست الأعلى، فقد سجّل العجز طيلة السنوات المُمتدة بين عامي 1994 و2003 مستويات أعلى من 14%، وصلت إلى 24% في 1997 و23% في 2000.
لا تقلّل هذه الأرقام من أهمّية العجز والدَّيْن العام، لا سيّما أن خدمة الدَّيْن العام أصبحت تشكّل أبرز آليّات تركيز الثروة في يد قلّة من المودعين على حساب الغالبية من دافعي الضرائب، لكن تطوّر العجز والدَّيْن الحكومي قياساً إلى الناتج المحلّي يبيّن بوضوح أنهما بلغا سابقاً مستويات أعلى وأخطر ممّا هي عليه اليوم، وهذا كافٍ ليدحض التحليل التبسيطي الذي يختصر الأزمة الراهنة، بوصفها أزمة قطاع عام عاجز ومُتضخّم، وهي الحجج التي يتمّ اعتمادها اليوم للدفع باتجاه التقشّف والخصخصة.
في مقابل هذا التبسيط، يظهر عامل مُتغيّر ومُربك جدّاً، يتمثّل بانخفاض صافي التحويلات المالية من الخارج، والذي عبّر عنه عجز ميزان المدفوعات. فحتى 2011، وهو تاريخ ظهور أولى علامات الأزمة الراهنة، كانت التحويلات الخارجية الواردة، ولا سيّما تحويلات العاملين في الخارج والودائع المصرفية والرساميل الموظّفة في المضاربات العقارية، تكفي لتعويض العجز الكبير في الميزان التجاري الناتج عن الفارق بين الصادرات والواردات، ولعلّ ذلك، كان أبرز علامات الاقتصاد الريعي الذي رعت تناميه السياسات الرسمية المُعتمدة منذ التسعينيات. وهكذا، كانت هذه التحويلات المصدر الأساسي لتمويل الدَّيْن العام المتنامي من خلال المصارف وتضخّم ودائعها، وفي الوقت نفسه، عوّضت حاجة السوق للعملة الصعبة من أجل الاستيراد.
ومع تنامي عجز ميزان المدفوعات منذ 2011، وعدم قدرة هذه المنظومة على الاستمرار وفق هذه المعادلة، انكشفت عوامل الخلل البنيوية القائمة، والتي يكمن جزء كبير منها في عدم قدرة الاقتصاد المحلّي على توفير العملة الصعبة المطلوبة على المدى الطويل لتمويل الاستيراد وتثبيت العملة، كما يكمن جزء آخر من تحدّياتها في مسألة إعادة تمويل الدَّيْن العام وخدمته وخصوصاً بالعملة الصعبة. وهكذا تكون الأزمة قد كشفت مشاكل عميقة ترتبط ببنية الاقتصاد اللبناني ووضع القطاعات المُنتجة فيه والسياسات التي أدّت إلى هذا الأمر، وهي مشاكل تتجاوز بطبيعتها مسألة العجز في الميزانية العامّة وحدها (وإن شكّلت أزمة الدَّيْن العام إحدى نتائجها الخطيرة).
وفي هذا المجال تحديداً، تكمن خطورة حصر النقاش في الشقّ المُتعلّق بالدَّيْن العام والعجز المالي في تشخيص خاطئ للمسألة، سيؤدّي بطبيعة الحال إلى حلول لا تعالج المشكلة القائمة بالضرورة. كان من المُفترض أن تدفعنا الأزمة إلى إعادة النظر في بنية الاقتصاد القائم، والسياسات القادرة على التأثير في هذا المجال، وخصوصاً دور الدولة في توجيه الاستثمارات، بدلاً من أن تصبّ هذه النقاشات، كما يحصل راهناً، في السبل الأمثل والحدود الأقصى للتقشّف، حتّى لو أدّى إلى عكس المطلوب تماماً، أي تعميق الركود الاقتصادي، وانسحاب الدولة الكلّي من أدوارها في تعزيز القطاعات المُنتجة، وترك المجتمع يواجه مصيره المجهول.