أنقر على الرسم البياني لتكبيره
هذا ما قام به مصرف لبنان بالمعنى الحرفي. فوفق توضيحات سلامة والبلاغات في إدارات مصرف لبنان وبينها وبين إدارات المصارف، يتبيّن أن مصرف لبنان نفّذ عملية Netting بين القروض بالليرة التي يمنحها إلى المصارف وتوظيفات هذه المصارف بالليرة لديه، والتي نتجت وتنتج عن عمليات الهندسة المالية الجارية بينه وبين المصارف، والتي تكثّفت وتضخّمت كثيراً منذ العام 2016. أسفرت هذه العملية عن تخفيض قيمة القروض الممنوحة من مصرف لبنان إلى المصارف المُسجّلة في الميزانية نحو 21.6 مليار دولار، من 36.9 مليار دولار كانت تظهر في موجز الميزانية في نهاية شباط/ فبراير إلى 15.3 مليار دولار ظهرت في موجز الميزانية في منتصف آذار/ مارس. كما أسفرت هذه العملية عن تخفيض قيمة ودائع المصارف لدى مصرف لبنان المُسجّلة في الميزانية نحو 21.3 مليار دولار، من 124.5 مليار دولار إلى 103.2 مليارات دولار في الفترة نفسها. وانعكس ذلك تخفيضاً في مجمل ميزانية مصرف لبنان من 145.2 مليار دولار إلى 124.01 مليار دولار، وهكذا اختفى فجأة نحو 21.2 مليار دولار، تبخّرت من الميزانية.
في الظاهر، تبدو عملية الـ Netting جائزة محاسبياً أو مبرّرة، لكونها تقوم على حسم أو تصفية قيم متساوية ومتقابلة بين طرفين محدّدين لديهما عمليات متداخلة، ولكن في حالة مصرف لبنان لا يجوز أخذ الأمر بهذه البساطة أو السذاجة، ولذلك يجدر التنبّه إلى أمرين أساسيين:
1- أن معظم عمليات الهندسة المالية الجارية بين مصرف لبنان والمصارف تعتمد الطريقة التالية: في مقابل كل دولار يقرضه أي مصرف إلى مصرف لبنان، يحصل في المقابل على قرض بالليرة من مصرف لبنان توازي قيمته 125% من قيمة الدولار، أي إن المصرف يحصل في مقابل كل دولار على قرض بقيمة 1885 ليرة بفائدة 2% فقط. ماذا يفعل المصرف بهذا القرض؟ يعود ويقرضه لمصرف لبنان بفائدة 10.5% على 10 سنوات (مثلاً)، فيجني المصرف الفائدة على الدولار وفارق الفائدة بين ما يدفعه على القرض بالليرة الذي حصل عليه من مصرف لبنان وما يتقاضاه على القرض نفسه الذي أعاد إقراضه إلى مصرف لبنان.وماذا يفعل المصرف بهذا الربح؟ يشتري به الدولار من مصرف لبنان، ويعيد إقراضه له... هكذا دواليك.
إن هذه العمليات تعطي المصارف ربحاً تراكمياً يصل إلى أكثر من 15%، وباتت تمثّل مصدراً أساسيا لتمويل رفع الفوائد على الودائع ودعم الأرباح المصرفية. وبالتالي ما قام به مصرف لبنان، حتى ولو كان مبرّراً محاسبياً، فهو يطمس الحجم الفعلي لعمليات الهندسة المالية ويخفي كلفتها المتعاظمة. فوفق إحصاءات مصرف لبنان ارتفعت ودائع المصارف لديه، وهي ديون عليه، من 39.5 مليار دولار في نهاية عام 2010 إلى 124.5 مليار دولار في نهاية شباط/ فبراير الماضي، أي بزيادة قيمتها 85 مليار دولار في 8 سنوات وشهرين، وباتت هذه الودائع توازي أكثر من نصف الموجودات المصرفية. في المقابل، ارتفعت قروض مصرف لبنان للمصارف في الفترة نفسها من 800 مليون دولار إلى 36.9 مليار دولار، أي بزيادة 36.1 مليار دولار، وباتت هذه القروض توازي 15% تقريباً من مجمل المطلوبات على المصارف.
2- هناك طرق مختلفة لإجراء عملية الـ Netting، فأي طريقة اعتمد مصرف لبنان؟ فهل أجرى عملية «تصفية حسابات» بينه وبين المصارف، كما نقلت عنه قناة MTV؟ هل قام بحسم قيمة الودائع من قيمة القروض لكل مصرف؟ بمعنى أوضح، هل أجرى عملية «شطب» للقيم المتقابلة لتصبح صفراً، وبالتالي باتت الكلفة صفراً أيضاً؟ في الواقع، تتقاطع المعلومات من داخل مصرف لبنان ومن داخل إدارات المصارف على جواب واحد: ما قام به مصرف لبنان تحت اسم الـ Netting اقتصر على نقل قيمة عمليات الهندسة المالية إلى خارج الميزانية، فهي باقية وتتوسّع، ولكنّها من الآن فصاعداً ستكون مُخفاة وسيكون من الصعب رصد تطوّرها وحجمها الحقيقي وقياس كلفتها الفعلية.
ليست هذه المرّة الأولى التي يلجأ فيها حاكم مصرف لبنان إلى «السحر المحاسبي»؛ ففي تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 2017 أجرى تعديلاً لمنهجية احتساب عناصر ميزان المدفوعات لإظهاره بصورة أفضل مما هي فعلياً، ولكن الصورة بقيت سيّئة على الرغم من هذا التعديل، فهل يكون حظ سلامة أحسن في عملية الـ Netting الأخيرة؟ أم أن التدهور يسير بوتيرة أسرع بكثير من أن يستطيع هذا السحر طمسه وإخفاء حقيقته؟