اتسمت مرحلة ما بعد الحرب الأهلية بتهميش دور التعليم الرسمي إلى حدّ كبير، سواء من خلال حصّته المتدنّية من الموازنات المتعاقبة، أو من خلال الإهمال الإداري وإدخال مؤسّساته في إطار منظومة المحاصصة التي اعتمدها الأقطاب المتوالون على الحكم. وهو ما أدّى تدريجاً إلى اتجاه معظم اللبنانيين إلى التعليم الخاص كبديل. وهذا ما تظهره إحصاءات المركز التربوي للبحوث والإنماء التي تؤكّد أن 31% فقط من الطلّاب في كلّ قطاعات التعليم في لبنان يقصدون المدارس والجامعات والمهنيات الرسمية، بينما تتوزّع النسبة الباقية على مختلف مؤسّسات التعليم الخاص. فعلى صعيد التعليم الجامعي مثلاً، تراجعت نسبة الملتحقين بالجامعة اللبنانية من 45% إلى أقل من 38% بين عامي 1992 و2017.صبّ هذا الواقع في صالح القطاع التعليمي الخاصّ، الذي وجد في تردّي واقع التعليم الرسمي فرصة للتمادي في رفع الكلفة على الأسر على مدى السنوات، خصوصاً مع غياب أيّ ضوابط جدّية، قانونية وإداريّة، للجم ارتفاع الأقساط التي يتقاضاها قطاع التعليم الخاص على مستوى الجامعات والمدارس والتي تتحمّل أعباءها الأسر المعيشية في لبنان. فوفقاً لمؤشّر أسعار المستهلك الذي تنشره إدارة الإحصاء المركزي ويرصد كلفة الاستهلاك على الأسر في لبنان، يتبيّن أن كلفة التعليم ارتفعت إلى 119 نقطة بين عامي 2007 و2018، أي بنسبة 92% خلال 11 عاماً.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

في الواقع، ارتفعت أسعار كلّ السلع والخدمات خلال هذه السنوات بشكل عام، إلّا أن نسبة الارتفاع الإجمالي في مؤشّر أسعار المستهلك لم تتجاوز نصف نسبة الارتفاع في كلفة التعليم خلال الفترة نفسها، بحيث ارتفع المؤشر العام من 76 إلى 108 نقاط، بين عامي 2007 و2018، أي بنسبة 42%. وهنا يظهر حجم التفاوت بين نسبة ارتفاع أسعار السوق الناتجة عن التضخّم ونسبة ارتفاع كلفة التعليم.
أكثر من ذلك، منذ آخر تصحيح للأجور في لبنان عام 2012، ارتفعت كلفة التعليم من 93 إلى 119 نقطة، أي بزيادة بنسبة 28%، من دون أن يقترن ذلك بأيّ تصحيح للأجور التي تتقاضاها الأسر مقابل هذا الارتفاع في الكلفة. وبالتالي، كانت هذه الزيادة في كلفة التعليم تأتي على حساب القوة الشرائية للأسر وقدرتها على تأمين الاحتياجات الأخرى من دخلها.
أيضاً، خلال هذه السنوات، توازى ارتفاع إنفاق الأسر على التعليم الخاص مع تراجع نسبة الإنفاق الحكومي على التعليم من الناتج المحلّي. ووفقاً للبنك الدولي، ارتفع حجم إنفاق اللبنانيين على التعليم الخاص من مليار إلى نحو 1.78 مليار دولار، بين عامي 2005 و2011. في مقابل، تراجع نسبة الإنفاق الحكومي على التعليم من إجمالي الناتج المحلّي من 2.6% إلى 1.6% خلال الفترة نفسها، وهي نسبة متدنّية بالمقارنة مع المعدّل العالمي للإنفاق الحكومي نسبة إلى الناتج المحلّي الذي يبلغ 4.8%، ويصل إلى 4.5% في البلدان المتوسّطة الدخل التي ينتمي إليها لبنان.
من هنا، يتبيّن أن معضلة ارتفاع الأقساط ومعاناة اللبنانيين لتأمين كلفة التعليم، لا تنطلق من الأوضاع الاقتصادية المتردّية فحسب، ولا من المؤسّسات الخاصة الباحثة عن الربح والتي استفادت من كلّ الظروف المتوافرة لفرض شروطها على الأسر. وبالتالي، أنسنة القطاع التعليمي الخاص أو تخطّي الأزمة الاقتصادية، لن يعالجا أصل المشكلة، الذي يكمن في تراجع الدعم الحكومي للتعليم الرسمي القادر على توفير العلم المجاني والمقبول للجميع. فأيّ معالجة جدّية لا بدّ أن تنطلق من هنا.