مثّل عجز ميزان مدفوعات منذ 2011 العامل الأساسي خلف تأزّم الوضع المالي اللبناني وظهور المشاكل البنيوية التي كان يعاني منها أساساً النموذج الاقتصادي القائم في لبنان. وبينما يختصر هذا الميزان صافي التبادلات المالية بين لبنان والخارج، فإنّ تفسير هذا العجز تركّز على عنصرين ضمن هذا الميزان هما: الحساب الجاري الذي يضمّ التبادلات التجارية بالإضافة إلى الهبات والدخل (وهو يشمل الميزان التجاري)، والحساب المالي الذي يشمل العمليات المالية من تدفّق ودائع وقروض والتزامات وتملّك سندات دين وغيرها. في الواقع ثمّة عنصر ثالث لا يقلّ أهمّية عن العنصرين المذكورين، وهو الحساب الرأسمالي الذي يُعنى باحتساب عمليات الاستثمار وتملّك الأصول الثابتة ووسائل الإنتاج وغيرها. ووفق الأرقام، ساهم تراجع هذا الحساب بشكل كبير في عجز ميزان المدفوعات، إلى جانب المؤشّرات الأخرى المتعلّقة بالاستيراد والتصدير وتدفّق الودائع. وكما جميع المؤشّرات الأخرى، يسلّط تراجع أرقام هذا المؤشّر تحديداً على مكامن الخلل البنيوية الموجودة منذ البداية في النمط الاقتصادي المُهيمن في لبنان، ويرتبط بها بشكل وثيق.

بمراجعة أرقام مصرف لبنان للاستثمار الخارجي المباشر، يتبيّن أن تراجع هذه الاستثمارات بدأ منذ عام 2010، بانخفاضه من 4.3 و4.4 مليار دولار في عامي 2008 و2009، إلى 3.7 مليار عام 2010 و3.1 مليار عام 2011، وتابع انخفاضه ليسجّل 2.2 مليار دولار عام 2015. وبشكل عام، يتوازى تراجع مؤشّر الاستثمارات الخارجية مع تراجع غيره من المؤشّرات الاقتصادية المتعلّقة بالأزمة منذ عام 2011.
ولفهم هذا التوازي، يمكن النظر سريعاً إلى التشريح الذي قامت به المؤسّسة العامّة لتشجيع الاستثمارات في لبنان للاستثمار الخارجي المباشر عام 2017، إذ استحوذت عمليّات الشراء العقاري من قِبل المغتربين على 69.9% منه، بينما استحوذت عمليّات الشراء العقاري من المواطنين الأجانب على 23.4%. وهكذا تكون عمليّات الشراء العقاري بشكل عام تسيطر على 93.3% من عمليّات الاستثمار الخارجي في لبنان. أمّا النسبة الباقية من هذه العمليّات فتتوزّع بنسب ضئيلة على فروع الشركات الأجنبية في لبنان وعمليّات الدمج والاستحواذ من قبل الشركات الأجنبية وغيرها من العمليّات الاستثمارية.
منذ التسعينيات، لم تخرج عمليّات الاستثمار الخارجي من الإطار الذي وضعه النموذج القائم للنشاط الاقتصادي في البلاد، فطغت عمليّات الشراء والاستثمار العقارية على هذا النوع من العمليّات. وقد ساهمت هذه العمليّات عملياً في خلق الطفرة العقارية قبل 2011، كما استفاد النموذج الاقتصادي القائم من مساهمتها في ضخّ العملة الصعبة إلى البلاد. ولتشجيع هذا النمط، ساهم مصرف لبنان من خلال توفير الدعم للقروض السكنية المقدّمة للمغتربين، كما جرى إعفاء الأرباح الناتجة من عمليّات المضاربة العقارية من أي ضريبة فعلية على الأرباح.
يتسم الرأسمال الريعي والمضارب بالبحث عن المكان الآمن للربح السريع في ظل بيئة اقتصادية مشجّعة، وعلى عكس الاستثمارات المُنتِجة، لا يرتبط هذا الرأسمال بمشاريع مستقرّة على المدى الطويل. ولذلك، كان من الطبيعي في ظلّ الأزمة المالية والتي تطال آثارها القطاع العقاري أن تتراجع الاستثمارات الخارجية بهذا الشكل، وأن ينعكس تراجعها بشكل تلقائي على ميزان المدفوعات. ومع تطوّر الأزمة المالية وتبعاتها لاحقاً، لم يعد باستطاعة مصرف لبنان توفير الدعم للقروض السكنية للمغتربين بالدولار، في ظل عمله على امتصاص العملة الصعبة من السوق عبر هندساته المالية، فتراجعت أيضاً التدفّقات الاستثمارية التي كانت تستفيد من هذه القروض للشراء العقاري. وهكذا تحوّل تراجع الاستثمارات الأجنبية إلى سبب إضافي لتعميق الأزمة القائمة.

تفاصيل الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي تقدّمها المؤسّسة العامّة لتشجيع الاستثمارات في لبنان تعطينا فكرة أدقّ عن مصادر هذه الاستثمارات. فبالنسبة إلى عمليّات الاستثمار العقاري التي قام بها الأجانب، حلّ السعوديون أوّلاً بنسبة 18% من هذه العمليّات، بينما حلّ السوريون ثانياً بنسبة 14%، يليهم القطريون والعراقيون والأردنيون بنسب تراوحت بين 2% و3%. وبالتالي، يمكن القول إنّ نزوح جزء من الرساميل السورية للاستثمار في القطاع العقاري اللبناني بسبب الحرب أو العقوبات في الخارج أو النزوح ساهم عملياً في تخفيف آثار هذا التراجع بقدر كبير.
عملياً، يرتبط تراجع الاستثمارات الأجنبية المباشرة بالأزمة التي تواجه الاقتصاد اللبناني في كل نواحيه، وهي ترتبط بشكل أساسي بالبنية التي يقوم عليها، واستنفاد قدرتها على الاستمرار. وبالتالي، فمن غير المنطقي أن يتمّ اليوم ربط هذه الأزمة تحديداً بعوامل أخرى مثل التوتّر السياسي أو الفراغ الحكومي، من دون إعادة النظر بمجمل النموذج الاقتصادي الذي أنتج الأزمة بأشكالها المختلفة.