قبل أربع سنوات كان يمكن تعداد مجموعة مبررات لعدم مبالاة أكثرية اللبنانيين بالحراك العلماني لإسقاط النظام الطائفي. وقبل عامين كان يمكن وضع رد الفعل الخجول تجاه التمديد للمجلس النيابي في سياق خضوع الناخبين لرغبة مرجعياتهم. أما اليوم فيبدو الوضع مربكاً فعلاً: في ظل سقوط كل الشعارات السياسية وتراجع عصبية الأحزاب الأساسية والغلاء المعيشي، كان يفترض بملف النفايات أن يكون القشة التي تقصم ظهر النظام.
لا يتعلق الأمر هذه المرة بحقوق مجموعة موظفين لا تتضامن معهم مجموعات أخرى، أو معاناة منطقة صغيرة من تلوث مرملة أو معمل لا تتحول قضية رأي عام، أو اتهامات سياسية تشد عصب فريق سياسي آخر أو طائفة. للمرة الأولى ربما ثمة مشكلة ترخي بثقلها على كل بيروت والضاحية وجبل لبنان، من دون استثناء طبقة أو طائفة أو حزب أو مجموعة. رائحة الرابية والربوة والبياضة هذه الأيام كرائحة عجلتون وفيطرون والسهيلة والنبعة وجسر الباشا وبرمانا والمونتفردي والشياح، وتهمة الفساد، أو أقله التقصير، لا تستثني أحداً. ومع ذلك، لا يتحول القرف إلى اعتصام أو تظاهرة أو ثورة.

أزلام «سوكلين»
ساهموا في تخويف الرأي العام من
معامل فرز النفايات وإعادة تدويرها


بعيداً عن فشات الخلق الافتراضية، لا أحد يتحرك لتحميل مجلس الوزراء مجتمعاً مسؤوليته. أما النواب فلم يكبّدوا أنفسهم عناء الاجتماع، ولو شكلياً، لبحث هذه الأزمة. تسأل نواب التغيير والإصلاح عمّا فعلوه فيحيلونك على محاضر لجنة البيئة في مجلس النواب؛ كأنهم يعيشون في النروج أو النمسا، مع العلم بأن استمرارية سوكلين تعني أن تعب العونيين لاستعادة حقوق البلديات المالية كان مجرد مضيعة لوقتهم، في ظل انتقال الأموال من عبّ الحريريين إلى جيبهم ممثلاً بسوكلين. أما النائب سامي الجميل فيضلل الناخبين ببعض الصراخ بدل الأفعال؛ وها هو الطريق من إنطلياس إلى بكفيا أشبه بمكب ضخم لنفايات المنازل والمعامل وبعض المزارع ونتافات الدجاج. يمضي الدفاع المدني نهاره في إطفاء الحرائق التي تبعث سموماً في كل المتن. لماذا لم ينسّق سعادته مع البلديات المحسوبة عليه لوضع الحكومة أمام أمر واقع يتمثل في معامل فرز حديثة بديلاً من سوكلين؟ لا أحد يعلم. ولا أحد يعلم إلى أيّ حرج أخضر ترسل بكفيا نفاياتها. أما نواب كسروان الأربعة فيكمّمون أفواههم ولا يتنفسون منذ انتخابهم نواباً، لا منذ أزمة النفايات فقط. تقريباً في كل قرية كسروانية ومتنية هناك اليوم حرج أو طريق فرعي مقفل أو شاطئ عام أو حديقة مفترضة تحولت إلى مكب نفايات. مكبات فوضوية مخالفة لكل شروط السلامة والصحة لا تجد من يعترض عليها. أقسى الاعتراضات تتمثل في احتجاج شعبيّ صغير عند رئيس المجلس البلدي لإبعاد المكب المستحدث من أمام البيت بضعة أمتار. ولا شك في أن المسؤولية الثالثة، بعد الوزراء والنواب، يتحملها رؤساء المجالس البلدية الذين يضيّعون على بلداتهم هذه الفرصة الاستثنائية لاستبدال عبء سوكلين المالي بمشاريع فرز مربحة على المدى البعيد. ومقابل بعض الرياس الإيجابيين، كشفت الأزمة أن غالبية رؤساء اتحادات المجالس البلدية هم من أزلام «سوكلين». وقد عمد هؤلاء إلى المساهمة في تخويف الرأي العام من معامل فرز النفايات وإعادة تدويرها لإفشال كل المخططات البديلة، بدل أن يشرحوا لأهالي بلداتهم أن فرز النفايات هو غير طمرها أو حرقها وليس له أيّ تداعيات سلبية بيئية أو صحية.
المشكلة الأكبر هي في قاعدة هذا الهرم؛ فانتفاع كل من سبق تعدادهم يبرر تفرّجهم أو تآمرهم. أما تفرّج المواطنين على السموم تدخل منازلهم وغرف أطفالهم، فيما أكوام النفايات تحتل الأرصفة ومواقف السيارات وتقفل واجهات المحال، فهو الأغرب في هذه الظاهرة. هناك من يكتفي بالتصوير أو التغريد عبر صفحاته الافتراضية أو شتم السلطة والمسؤولين، ولا شيء أكثر. حتى من تظاهروا إنما فعلوا ذلك احتجاجاً على نقل قمامة غيرهم إلى منطقتهم لا من أجل رفع القمامة أو إعادة تدويرها أو إيجاد بديل من سوكلين. ها هم يعيشون في قرنة شهوان ومزرعة يشوع وجل الديب وصربا وبلونة ومناطق أخرى كثيرة في مكبات حقيقية للنفايات، كأنهم يسكنون «حي الزبالين» في القاهرة، من دون أي مبالاة بما يتعيّن عليهم شخصياً فعله ورؤساء المجالس البلدية وممثليهم في مجلسي النواب والوزراء. وتبدو الفضيحة في بعبدا والمتن وكسروان أكبر ممّا هي عليه في سائر المناطق، لأن مرجعيات المناطق الأخرى يتابعون هذه القضية بحكم انتفاعهم الكبير من سوكلين وغيرها، أما مرجيعات بعبدا والمتن وكسروان الوزارية والنيابية والبلدية فخارج السمع والنظر والشم. سابقاً كان ناخبو هؤلاء يهتفون بالروح بالدم نفديك يا فلان، أما اليوم فيقدمون أرواحهم ودماءهم وصحتهم وبيئتهم مجاناً دون افتداء أحد، كأن رائحة النفايات ومنظرها لا يكفيان لإيقاظ حضرة الرأي العام من سباته العميق.