«بتوقيت القاهرة» قال نور الشريف: وداعاً. في فيلمه الأخير، صدّر وقوفه أمام عدسة أمير رمسيس الكثير. لعب «يحيى شكري مراد» مقابل أجر رمزي، لأنّه أعجب بفكرة الفيلم. كان اعتراضاً عملياً على أجور فلكيّة لبعض النجوم، ما يؤثّر سلباً على عجلة الصناعة. هو نفس اسم شخصية يوسف شاهين في «حدوتة مصرية» (1982). كان ذلك جزءاً من تركيبة فيلم يلقي تحيّة حب على السينما المصرية، التي كان «نور» مهووساً بحركتها، مرهوناً لبقائها في صحّة وعافية. «يحيى» عجوز مصاب بالزهايمر.
سخط ابنه المتزمّت دينياً، يولّد خذلاناً أشدّ وطأةً من خيانات الذاكرة. ابنته المحبّة تهبّ نسمةً وحيدةً في صحرائه. لم يعلق من الماضي سوى صورة حبيبة قديمة (من أنسب من رفيقة دربه ميرفت أمين للعب الدور؟). هكذا، يقرّر السفر من الإسكندريّة إلى القاهرة للبحث عنها. نور الشريف في واحد من أبهى تجليّاته، يقطع رحلةً وجوديّة أخيرة على شاشة لازمها نصف قرن. الفرق أنّ الممثّل حاضر الذاكرة، متوقّد الذهن، صاحب مشاريع لا تنتهي. كان يستعدّ لمسلسل «أولاد منصور التهامي»، سيناريو مصطفى محرم وإخراج سميح النقاش. في تاريخه الكثير من الجوائز والتكريمات، آخرها أفضل ممثّل في «مهرجان وهران الدولي للفيلم العربي 2015» عن الدور نفسه. يبقى أحبّ التكريمات إلى قلبه احتفاء العام الفائت في مهرجان الإسكندرية السينمائي. يومها، شهد بعينيه أكبر ندوة تكريم في تاريخ المهرجانات المصريّة، حتى أنّ مكانها تغيّر من داخل الفندق إلى قاعة أفراح ملحقة به لاستيعاب الحضور. عدد هائل من مختلف أجيال المخرجين والممثّلين والنقاد والمحبّين، بدوا كما لو أنّهم نفروا لوداعه. للرجل أفضال كبيرة على كثيرين بالفعل.

لم يمانع الظهور
عارياً في «ليلة البيبي دول»
(2008) لعادل أديب

نور الشريف نموذج صارخ للفنّان المثقف. قارئ مثابر، ومبدع مهموم بتطلّعات البسطاء، تماشياً مع القضايا الكبيرة. «ناجي العلي» يختصر ما عمل عليه طوال حياته: «الوطن والحريّة». الانتماء الذي يطمئنّ لمصريته أولاً، قبل الانخراط في الشأن القومي. الحريّة بكافّة أشكالها الفكرية والدينية والفنيّة، وصولاً إلى اليوميات الصغيرة. هكذا، لم يمانع الظهور عارياً في «ليلة البيبي دول» (2008) لعادل أديب، لنقل جحيم سجن أبو غريب كما يجب. حرص نادر على التنوّع. هنا، لا يمكن استغراب كثرة العناوين التجارية في فيلموغرافيا نور الشريف، توازياً مع أشرطة صارت من علامات السينما العربيّة.
هو الصانع النشيط في مطبخ الصناعة. دخل معترك الإنتاج في عمر 29 سنة. قدّم مخرجاً يصغره بعام واحد هو سمير سيف، الذي أنجز باكورته «دائرة الانتقام» (1976)، بحضور الشريف أمام الكاميرا أيضاً. مهلاً، هو من قدّم محمد خان كذلك في «ضربة شمس» (1980)، مطلقاً تيّار المرحلة الثانية من الواقعية في السينما المصرية أو «الواقعية الجديدة». في جعبة نور الشريف المنتج أسماء عديدة. كمال عطيّة في «مدينة الصمت» (1978)، وحسين كمال في الأيقونة الرومانسية «حبيبي دائماً» (1980)، ومحمد النجار في «زمن حاتم زهران» (1987)، مختتماً بنفسه مخرجاً لمرّة وحيدة في «العاشقان» (2001). في عام 1992، اشترك مع مجلة «فن» اللبنانية في إنتاج «ناجي العلي»، تحت إدارة عاطف الطيب. كان واحداً من تسعة أفلام توهّج خلالها نور الشريف في سينما الطيب، الذي أسّس لذاته كياناً مختلفاً عن مجايليه الواقعيين الجدد، من أمثال محمد خان وخيري بشارة وداود عبد السيد. لا شكّ أنّ «سواق الأتوبيس» يمثّل التعاون الأرفع بين الشريف والطيب. درس كبير في اشتغال ممثّل، ورؤية مخرج، وقراءة مجتمع. نور الشريف صاحب أكبر عدد من الأفلام المأخوذة عن روايات محفوظ. لا أفضل من «كمال عبد الجواد» من الجزء الثاني من ثلاثية صاحب نوبل «قصر الشوق» (1966)، ليقدّمه إلى الجمهور بشكل لائق. هذه نصيحة عادل إمام للمخرج حسن الإمام، بعد أن شاهد نور الشريف يلعب «هاملت» على المسرح. الشاب المثالي المتحمّس مفصّل على الوجه الجديد. بالفعل، وقف بتمكّن أمام يحيى شاهين، كما فعل مع محمود مرسي في رائعة سعيد مرزوق «زوجتي والكلب» (1971). توّج «عبد الجواد» بأداء أعلى لمرحلة الكهل الأربعيني في الجزء الثالث «السكريّة» (1973) لحسن الإمام. خلال مسيرته، تابع مع أدب نجيب محفوظ في «السراب» (1970) لأنور الشناوي، و«الكرنك» (1975) و«أهل القمة» (1981) لعلي بدرخان، و«الشيطان يعظ» (1981) ليحيى العلمي، و«دنيا الله» (1985) لحسن الإمام في التعاون الثالث، و«المطارد» (1985) لسمير سيف، والعلامة الفلسفية اللافتة «قلب الليل» (1989) لعاطف الطيب، وأخيراً «ليل وخونة» (1990) لأشرف فهمي. محفوظ نفسه قال لنعم الباز في مجلة «آخر ساعة» أواخر عام 1980: «نور الشريف حينما يمثل لا يكون ذاته، وإنّما الشخصية التي رسمتها (..) حين رشحه المخرج حسن الإمام لشخصية «كمال عبد الجواد» كان أهم ما يعنيني أن يجسّد الخيال كما صوّرته تماماً، وفعلاً جسّده أجمل تجسيد، وأحسست بالتوحد (..)، وحينما أخبروني أنّه سيمثّل «أهل القمّة» فرحت وقلقت. فرحت لكونه نجماً وفناناً كبيراً، وقلقتُ لأنّ الدور بعيد عن مكوناته، لكنه نجح نجاحاً دلّ على مرونة فنية، ولذلك أكون سعيداً جداً حينما أعلم أنّه سيمثّل روايةً لي».
رحل نور الشريف حزيناً لأنّ تاريخه المسرحي الذي لم يوثّق. هو الأساس الذي جعله قادراً على الذوبان في الشخصية. عن قدرته العالية على التماهي، قال خيري شلبي مستشهداً بالبيت الشهير: «رقّ الإناء، وراقت الخمر، فتشابها واختلط الأمر. فكأنما خمر ولا قدح، وكأنّما قدح ولا خمر». في المقابل، بقي شيء من شخصه ونمطه في بعض الأفلام، التي لم تضف له شيئاً. من البديهي أنّ السيناريو الجيّد يقترح إمكانية التحليق على الممثل. هذا حال أبناء جيله، الذين تفوّق منهم أحمد زكي باعتراف نور نفسه، فيما عمل مراراً مع محمود عبد العزيز وحسين فهمي، كما في «العار» (1982) و«جري الوحوش» (1987).
في «دم الغزال» (2005) لمحمد ياسين، قال عبارةً لا تُنسى قبل موته الاختياري: «نورها كان دايماً يسبق نور الشمس». سأل في «الزمّار» (1985) لعاطف الطيب: «بسافر بسافر، بهاجر بهاجر. إيمتى هتلقى المحطة وترسى يا حاير؟». بعد أكثر من 170 إبحاراً، ها قد رسوت يا ابن رشد. وداعاً.