بعقوبة | مساء السابع من حزيران 2006، في غرفة صغيرة تبعد نحو 15 دقيقة بالسيارة عن الطريق العام عبر درب ترابي متعرج وصعب، ووسط مسافة شاسعة من بساتين النخيل، وقرب ممر لساقية مائية تروي هذه البساتين، دوّى انفجار رهيب لقذيفة موجهة من طائرة أميركية استهدفت الغرفة الصغيرة في البساتين. أقل من دقيقة ثمّ دوى صوت آخر. وحين انقشع الغبار، كان الانفجار محصوراً في بقعة البناء فقط لا غير، حتى إن أياً من أشجار النخيل لم تقتلع.
دقائق قليلة مرت، واعتقد سكان المنطقة بأن ما حصل هو قصف أميركي روتيني؛ فقبل أيام من تلك الحادثة، سمعوا أيضاً قصفاً من الطائرات الأميركية، وبعضهم يقول من المدفعية قرب بغداد (على مسافة تتجاوز 40 كيلومتراً من بستان النخيل في منطقة هبهب قرية عرب شوكة). يومها أدّى القصف إلى مقتل عائلة مع أطفالها، وتبين أن القصف تم وفق إحداثيات خاطئة.
لكن، في هذا اليوم، أي في السابع من حزيران 2006، لم يكن القصف عن طريق الخطأ؛ فبعد أقل من عشر دقائق، وصلت مروحيات أميركية وأنزلت جنوداً مجوقلين في البساتين، وحضرت سيارة اسعاف فجأة، وتمت مداهمة المنطقة وتطهيرها، ثم وضع داخل سيارة الاسعاف أحمد فاضل نزال الخلايلة، أو من يعرف بـ«أبو مصعب الزرقاوي»، أمير تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، ومؤسس تنظيم «التوحيد والجهاد».
ستختلف روايات شهود العيان، وسيؤكد لك مسؤولون أمنيون وقادة في مجالس «الصحوات» وزعماء عشائر كانوا في حينها على خلاف مع تنظيم القاعدة أن الزرقاوي لم يمت من القصف، بل «انفجر من الداخل»، أو بالأحرى تعرض لنزيف داخلي، وهم لا يعلمون بالضبط ما الذي حصل، إلا أنهم يقولون إنه كان موجوداً بعد القصف على مسافة 200 أو 300 متر من الغرفة الصغيرة التي أُشيع في الإعلام أنها كانت فيلا تضم كل قيادة الزرقاوي، وأنها أودت بكل قيادة تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين. في المقابل، سيخبرك آخرون بأن الزرقاوي كان خارج الغرفة الصغيرة التي عاش فيها الأيام الأخيرة من حياته، وأنه لم يمت من جراء القصف، بل أصيب. وحين مشى مترنحاً لعدة مئات من الأمتار، وقع ومات. غيرهم سيقولون إن الرجل خرج حياً ومصاباً ومترنحاً، لكن لحظة وصول القوات الأميركية انقض عليه الجنود وخنقوه، واضعين «دشداشته» على رأسه.
لكن الرجل مات وحيداً، ولم يعلم أحد ما الذي حل براعي الأغنام العجوز، الغريب هو الآخر عن المنطقة، والذي ظهر في نواحي هبهب قبل أشهر من مقتل الزرقاوي، والذي ساعده السكان في قرية عرب شوكة دون سابق معرفة لمّا شاهدوه بفقر حاله، فعطفوا عليه وتركوه يختار هذه الغرفة الصغيرة في الناحية مسكناً مرتجلاً له، وشاهدوه وهو يرعى أغنامه في محيطها حتى بدايات شهر حزيران حيث لاحظوا أن الغرفة الصغيرة أُغلقت نوافذها، وأصبحت تتمتع بإنارة. لكن السكان، وبحسب ما يقول شيوخ عشائر المنطقة، ولطيبة قلبهم، لم يبالوا بتبدل أحوال الراعي العجوز، خاصة أنها تغيرت إلى الأفضل. لم تكن عرب الشوكة، القرية الصغيرة في نواحي هبهب حيث قتل الزرقاوي، مؤيدة لتنظيم القاعدة بحسب ما يقول أحد شيوخ العشائر، لكن أبناء المناطق المجاورة، وخاصة تلك ذات الغالبية الشيعية، يقولون إنها على غرار كل مناطق السنة المحيطة، شكّلت حاضنة لتنظيم القاعدة، أو على الأقل لعناصر البعث الفارين من بغداد. لكن حين تواجههم بما حصل في عام 2007 حول مقتل شيخ عشيرة في هبهب لرفضه مساعدة تنظيم القاعدة، بل لقتاله ضد التنظيم، يصمت أبناء المناطق المجاورة، ويعترفون بأن في الأمر وجهة نظر، وخاصة أن أبو مصعب أراد الاحتماء في منطقة لا تثير الشبهات، ولا تكون من النقاط المستهدفة بصفتها مسيطراً عليها من التنظيم.
الراعي الذي استطلع للزرقاوي سكنه طوال أشهر، اختفى، وكذلك أحد أفراد عشيرة العبيدي الذي يُقال بأنه وشى بأبو مصعب للأميركيين طمعاً بعشرات ملايين الدولارات الموعودة (الجائزة المرصودة لأبو مصعب كانت 25 مليون دولار). وكذلك العديد من الشخصيات الشاهدة على ما حصل، والمكان الذي قتل فيه الزرقاوي أيضاً اختفوا، وردمت الحفرة التي يبلغ عمقها جذور شجرة نخيل (كما يقول السكان). وحين تمر اليوم فوق مكان الغرفة التي قصفت بصاروخين، تشاهد أعشاباً كثيفة، وبقايا سور للحديقة كُتب عليه «الله» وبضعة أجزاء من سقف اسمنتي استقرت في نواحٍ قريبة من مركز الغرفة، بينما الحفرة نفسها ردمها الاميركيون بجرافة بعد أيام قليلة على العملية، ثم عاد أبناء المنطقة وردموها مرة أخرى حتى يمحوا أي أثر للزرقاوي. حفرة شهدت نهاية أحد الذين خلفوا السلطة العراقية المركزية، أو نظام صدام حسين.
أحد جنرالات الجيش العراقي في زمن صدام لم يقتنع بأن من أتى بعد صدام أفضل منه، وهو يمتنع عن التصريح باسمه، ويقول بأنه تُسجَّل للنظام السابق فضيلة توفير الأمن، بينما من أتوا بعده لم تُسجل لهم أية فضيلة حتى الآن.
الجنرال المتقاعد يتحدث عن لقاءات عقدها مع عناصر ومسؤولين (أو أمراء) في تنظيم القاعدة، واستخلص منها معلوماته واقتناعاته. ومع سطوة تنظيم القاعدة في منطقة ديالى، وتحول الصراع من مقاومة ضد الاحتلال إلى مجازر طائفية (منتصف عام 2005)، كان عناصر التنظيم وأمراؤه لا يشكون لوهلة في أن هذا الضابط المتقاعد قسراً، والسني انتماءً، مؤيد لهم. وحين اكتشفوا أنه من أنصار المقاومة لا السلفية الجهادية التي يصفها بالاجرام، خرج الحكم المبرم عليه، وأصبح الجنرال هذا مطلوباً لـ«القاعدة»، حتى قتل التنظيم نجل الجنرال وأحد أشقائه، وفجر منزله.
هذا الجنرال كوّن اقتناعاً بأن «القاعدة» في العراق، المؤلف بمعظم صفوفه من عناصر عراقيين، هو «قواعد» عدة، فيها الخط الايراني والاميركي، وفيها الخط الجهادي الساذج. يعتقد الرجل بأن الزرقاوي نفسه هو خليط، فهو أتى من ايران، ويكرر رواية أمراء تنظيم «التوحيد والجهاد» حين أخبروه أن «هذا البطل الذي أرسله الله لنا، عبر من أفغانستان إلى باكستان، ومن هناك إلى ايران، ومنها وصل إلى العراق». إلا أن حكاية الزرقاوي أكثر تعقيداً من ذلك بقليل؛ ففي تقرير أمني سري أعدته القوات العراقية حول التنظيمات المقاتلة في العراق عام 2006، إشارة واضحة إلى أن الزرقاوي كان في الأردن معتقلاً، ثم تم اخلاء سبيله (دون مبرر واضح) ـــــ بحسب التقرير ـــــ وذهب إلى أفغانستان، ومنها إلى باكستان مع سقوط دولة «طالبان»، ومنها إلى ايران وصولاً إلى العراق، حيث أبلغت السلطات الاردنية السلطات العراقية (زمن صدام حسين) بوجود الزرقاوي على الأراضي العراقية، فألقي القبض عليه، ثم أُخلي سبيله. في رحلة البحث عن تنظيم القاعدة، يتحدث أفراد من الشرطة الفدرالية بنحو غير رسمي عن انتشار هذا التنظيم. اليوم، تخلّى «القاعدة» عن الزي السلفي ـــــ الأفغاني، أو الباكستاني، بعدما ساد في صفوفه لفترة، وبات أخطر عناصر «القاعدة» هم أولئك الذين يرتدون «الجينز» ويضعون على شعورهم مسحوق الـ«جيل».
«هم أبناء البلد»، يقول أحد ضباط الشرطة الاتحادية التي كان يفترض أن تقوم لاحقاً بدور مكتب التحقيقات الفدرالي الاميركي (FBI)، لكنها اليوم قوة عسكرية قتالية مجهزة للقيام بعمليات بحث وتحر ومواجهات مباشرة. ويضيف الضابط رفيع المستوى أن أبناء البلد هؤلاء يختفون وسط السكان بسهولة، وكانوا في الماضي ظاهرين، وممسكين بالأرض، ثم باتوا اليوم نائمين، يروننا ولا نراهم، وحركتنا مكشوفة أمامهم، بينما حركتهم مستورة.
في بعقوبة، تنفجر عبوة ناسفة لاصقة بسيارة عند الساعة الثانية من بعد ظهر 15 تموز 2011. «القاعدة» التي يقول الضباط إنها خلايا نائمة، تنشط اليوم، لكن ربما يرونها نائمة قياساً بما كانت عليه سابقاً. الجهد الاستخباري لـ«القاعدة» ليس كبيراً، لكنه دقيق، هم يستخدمون السكان المحليين، بمعرفتهم أو دون معرفتهم، ويستخدمون الاستطلاعات المباشرة، وينفذون عمليات بحق أهداف تعتقد العامة أنها عشوائية، إلا أنها ليست كذلك على الاطلاق.
الضباط الأمنيون يرون أن استهدافات تنظيم القاعدة في العراق دقيقة، فهي إما لعناصر من الشرطة، أو الاستخبارات والأجهزة السرية، أو لضباط من الحرس الوطني، وموظفي الادارات الحكومية، ودائماً يضربون بعمليات خاطفة، وبدأت في المرحلة الأخيرة ترتفع وتيرتها: عبوة لاصقة ورشقات رشاشة، ثم يختفون. يقول أحد كبار الضباط الأمنيين الذين عملوا ضد «القاعدة» منذ 2004.
لم يعد «القاعدة» ينفّذ عمليات ضد أهداف أميركية منذ زمن طويل، والبعض يقول إنه لم ينفذ عمليات ضد هذه الأهداف أساساً، بل دخل في تصفية القوات التي تعمل ضد الاميركيين مثل «كتائب ثورة العشرين»، و»قوات الناصر صلاح الدين»، وهي القوى التي يعنيها العراقيون (السنة) حين يلفظون تعبير «مقاومة». أحكم «القاعدة» قبضته على معاقل القوات السنية الأخرى جميعاً، وأخذ منطقة ديالى منطقة حرة له، وأقام فيها «دولة العراق الاسلامية»، وتحكّم الزرقاوي ومن بعده أبو عمر البغدادي بالطرقات المؤدية الى كردستان وايران، وبقي محافظاً على خطوط ارتباط مع باقي نقاط انتشار «القاعدة» في مناطق أخرى، وحافظ على تهديده لبغداد وعلاقته بالقوات الموجودة فيها، وخاصة في ناحية الدورة البغدادية.
حين وصل أبو مصعب الزرقاوي إلى العراق بفريقه من الجهاديين الأجانب، وأسّس تنظيم «التوحيد والجهاد»، بدأ بخطة عمل تختلف عن أسلوب عمل تنظيم القاعدة، ما أثار العديد من الاحتجاجات. كانت عمليات ضرب الأعناق وحز الرقاب تتكرر كل يوم، وبأعداد هائلة، في مناطق السنة خاصة، وضرب الشيعة حيثما شعر بقدرته على تصفية وجودهم، وحارب كل الفصائل الأخرى، إما لامتناعها عن مبايعة تنظيمه، وإما لخروجها عن أحكام الدين. كذلك حوّل الطرقات إلى مقتلة لكل العراقيين الذين يمرون عليها، وأرسل حينها الشيخ أسامة بن لادن، ولاحقاً الدكتور أيمن الظواهري، رسائل تطلب من الزرقاوي التزام الخط الجهادي للتنظيم. إلا أن القوة على الارض حكمت بأن يعود بن لادن عن رأيه، ويسلّم «امارة تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين» إلى الزرقاوي حتى مقتله.
في تلك المرحلة، تحوّلت الطريق المتجهة من بغداد إلى سامراء وتكريت وكركوك وبعقوبة الى طرقات الموت. كان القلة يعبرونها، وبحال أرادت القوات العراقية عبورها، تسير ليلاً ومن دون اضاءة، وتربط كل عربة في مؤخرتها سلسلة حديدة تلامس الارض، فتحدث باحتكاكها بالاسفلت شرارة بسيطة، تمكن العربات خلفها من رؤيتها والسير بأعقابها. ورغم كل ذلك، كانت تتعرض لنيران وهجمات. أما القوات الأميركية، فكانت تسلك هذه الطرقات بمواكب لا تقل عن عشرين عربة، ومؤازرة من المروحيات القتالية أو الطائرات الحربية.
بعد انتشار العنف الطائفي المتبادل، أصبح عبور هذه الطرقات يسيراً على القوات الاميركية، وبقيت القوات العراقية وحدها المستهدفة من تنظيم القاعدة، بصفتها «قوات عميلة» بحسب اعلان القاعدة وبياناتها، ولكونها مشكّلة بأغلبها من الشيعة، بحسب ما يقول السكان.
أما اليوم، فإن انتقال هذه القوات يمكن أن يمر بسلام، وإن كان يستهدف بين الحين والآخر بعمليات خاطفة وسريعة لمقاتلين من التنظيم يفتقرون إلى قدرات نارية عالية، وإلى حاضنة سكانية تحميهم كما كانت في السابق. حين انتشر تنظيم القاعدة في العراق بقيادة الزرقاوي، لم يكتف بأخذ البيعة من شيوخ العشائر، وإخضاع القوى المقاتلة والعاملة في مناطق السنة لسلطته، وإنشاء دولة اسلامية في العراق، بل تحول هذا التنظيم إلى قاعدة اضافية، إذ امتلك الزرقاوي امتداداً في العديد من الدول، من الغرب والولايات المتحدة، إلى دول الجوار العربي.
في لبنان، كان للزرقاوي مساعدون، منهم أبو محمد اللبناني ونجله، اضافة إلى العديد من العناصر، وشبكة الـ 13، التي كانت تشكل فريق إمداد للجهاد العراقي، والتي يقول أحد أفرادها في محاضر التحقيق إنها نفذت عدداً من عمليات القصف ضد الأراضي الإسرائيلية لاسترضاء الزرقاوي.
في الأردن وقعت 3 عمليات تفجير في وقت متزامن مساء التاسع من تشرين الثاني 2005 في ثلاثة فنادق في عمان، أدت إلى مقتل 57 شخصاً، وتم ربط هذه العمليات بالزرقاوي أيضاً، وتبناها تنظيم القاعدة رسمياً.
في السعودية، وفي شهر شباط 2006، وقعت محاولة لتفجير أكبر منشأة نفطية في العالم، وهي مصفاة أبقيق التي تُعد العمود الفقري لإنتاج النفط في السعودية بواقع 60 في المئة من مجمله، وفشلت العملية، وثمة إشارات إلى أن الزرقاوي كان على صلة بالعملية. أخيراً، في السابع من حزيران 2006، انتهى ابو مصعب الزرقاوي ليحل مكانه شخص سبق أن كان سجيناً لدى القوات الأميركية: أبو عمر البغدادي.

(غداً: «الأنبار: قاعدة دون قاعديين»)



استخبارات واعتقالات

تورد دراسة أمنية عراقية خاصة، المعلومات التالية حول أبو مصعب الزرقاوي ودخوله العراق:
«بعد أحداث 11 أيلول 2011، أعلمت السلطات الأردنية الاستخبارات العراقية بدخول مجموعة من التكفيريين (سبق أن ألقت السلطات الأردنية القبض عليهم ثم أطلقت سراحهم لسبب مجهول) وهم:
1ــ محمد أحمد الخلايلة الملقب (أبو مصعب الزرقاوي) أردني الجنسية.
2ــ مصطفى يوسف مصطفى صيام (الملقب أبو يوسف) أردني الجنسية.
3ــ معمر الجغيفر (أردني الجنسية).
4ــ أبو أنس الشامي.
5ــ رشيد حميد عباس الجميلي (أبو عائشة) عراقي الجنسية.
وتضيف الدراسة: «إثر ورود هذه الإشارة من الاستخبارات الأردنية، قامت نظيرتها العراقية في عهد نظام (صدام) باعتقال هؤلاء الخمسة بعد مراقبتهم. وبعد فترة تحقيق، جاء أمر مباشر من صدام بإطلاق سراحهم، فكانت هذه المسرحية من إطلاق سراحهم في الأردن ثم إلقاء القبض عليهم في العراق وإطلاق سراحهم أيضاً هي بداية تشكيل فرع للقاعدة في العراق».