مرّت أسابيع قليلة على اقتحام القوات السورية ما كان يعرف يومها بالمناطق الشرقية في خريف عام 1990. قال سهيل: تعال أدلّك على منزلنا في محلة المراية في عين الرمانة. انتقلنا الى المنطقة القريبة من معمل غندور في الشياح. كانت الجرافات قد بدأت بإزالة بعض السواتر عن خط التماس الشهير باسم طريق صيدا القديمة. تحرك سهيل كأنه عبَره أمس، بينما كنت أتخيل مسيراً طويلاً. لكنها خطوات قليلة لتعبر من ثغرة في ساتر قد ازيل قسم منه في الجهة المقابلة. ومن بين الابنية المنخورة بالقذائف والرصاص، دخلنا الى العالم الذي كان ممنوعاً بقوة النار، والذي سقط المئات بل الآلاف من المقاتلين وهم يحاولون الدخول اليه دونما نتيجة.
صمت، ووجوه تنظر الى بعضها، ورحلة استغرقت بضع دقائق. وفجأة، يصرخ سهيل: وصلنا. ثم يتحول في دقيقة الى دليل، يبدأ بالحديث عن المكان وعن السكان الذين كانوا هنا، وعن رحلة التهجير بسبب الانتماء الى الحزب الشيوعي. بعدما كان منزل العائلة في جاج (جبيل) قد احرق ايضاً... لم يكن في تلك اللحظة يخفي خيبته من كل الحرب الاهلية التي انتقد استمرار الانخراط فيها منذ وقت طويل.
قبل هذا الموعد بنحو 3 سنوات ونصف، تعرفت الى سهيل عبود شخصياً. في شباط عام 1987 وعلى اثر دخول القوات السورية مجدداً الى بيروت، طلبت قيادة الحزب الشيوعي منا الذهاب الى المنزل. ثم جرى توزيعنا على عدد من المراكز من بينها مقر جريدة «النداء» التي وصلنا اليها على شكل قوة حرس. كنت من بين مجموعة تغيرت حياتها في تلك الايام. قررت على عجل وقف استكمال دراسة الهندسة في الجامعة. وصرت اقضي معظم الوقت متنقلاً بين طبقات المبنى وهدفي الفعلي الطبقة الثانية حيث مكاتب التحرير. كان مهماً بالنسبة إلي مراقبة سهيل وهو يدخل الى الجريدة صباحاً او عندما يغادر ظهراً والعودة عصراً بعد أن يتناول الغداء في منزله الصغير في زاروب العلية بين عائشة بكار وفردان.
كان التعرف إلى سهيل هدفاً كبيراً، هو بالنسبة الينا مصدر الزاد اليومي الذي نحتاج إليه في مقارعة الآخرين من القوى السياسية، في الجامعة وفي الحي ايضاً. كانت زاويته اليومية هي الافضل. حتى من بين كتّاب آخرين في صحف اخرى. أما في «النداء» نفسها، فلم يكن بالإمكان قراءة غيرها. رويت له مرة كيف كنا قبل الاجتياح الاسرائيلي، وخصوصاً بين عامي 1980 و 1982 نتولى توزيع وبيع «النداء» في صيدا ومحيطها. والتحدي في من يقدر على بيع اكبر عدد من نسخة يوم الاحد. وكيف أن امرأة في بلدة مغدوشة كانت تشتري 5 اعداد، كان الرفيق مأمون يقول ان الامر مرتبط بمقالة سهيل عبود.. الى أن طلب منه مرة في الاجتماع الحزبي التعرف إلى العائلة اكثر، فكانت الصدمة أن السبب الفعلي هو أنها كانت تحتاج إلى هذه الكمية من الجرائد لتنظيف المنزل.!
كان سهيل بالنسبة إلينا أكثر من نجم او مصدر معلومات. وفي الفترة الاولى من التواصل معه كان يتصرف بطريقة محيرة. لا تعرف ان كان تواضعه حقيقياً أم أنه يتعمد الحياء عندما نحدثه عن مكانته وسط الشيوعيين. لكنه كان مستعداً دوماً للنقاش. في تلك الاسابيع، اكتشفت للمرة الاولى معنى الرقابة الذاتية، حيث كان لسهيل موقف جذري وحاد مما يجري في البلاد. لأول مرة ألتقي بالشخص الثاني بعد والدي الذي يملك موقفاً نقدياً واضحاً من سلوك قيادة الحزب السياسي، لم تكن وجهات النظر متطابقة، لكن سهيل كان يشرح حقيقة موقفه المختلف، وكيف أنه لا يعبّر عنه صراحة احتراماً لوجهة الجريدة المعبرة عن خط الحزب.
خلال اشهر قليلة، كان الزميل حسن الشامي، سكرتير التحرير في حينه، يرحّب بي ايضاً، اظهرت له اهتمامي بالعمل في الجريدة، ورغبتي في اكتشاف هذه الصناعة. سعيت إلى أن يسمح لي بالنزول الى الطبقة الاولى حيث عملية انتاج الجريدة. كان حسن يهتم بالعلاقة الشخصية والمباشرة. يهتم بسيكاره الصغير، وبموسيقى كلاسيكية جمع الكثير منها، طلب مني أن أعدّ له تحقيقاً عن كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية. وسرعان ما اتاح لي ولآخرين العمل في اقسام مختلفة، من التربية والتحقيقات وتغطية أخبار الاعتداءات الاسرائيلية والكتابة الحرة في عدد الأحد. وانتقلت إلى العمل مع صبحي زعيتر في قسم الخارجيات.. الى أن تطور الوضع الداخلي عند انتهاء ولاية الرئيس امين الجميّل وتولي العماد ميشال عون إدارة المعركة القاسية بوجه سوريا.
صار العمل في القسم السياسي المحلي هو الهدف. كان سهيل المسؤول الاول هناك. من على مكتبه في زاوية الغرفة الطويلة المطلة على الشارع الضيّق في حي الوتوات، جلس الى جانبه مصطفى ياسين (رئيس تحرير حالي في الوكالة الوطنية للأنباء) وحسن سلامة (محلل في جريدة الديار). طلب مني سهيل أن أجد طريقة للتواصل مع قصر بعبدا. تعرفت يومها عبر الهاتف إلى يوسف الاندري. وبعد انتخاب الياس الهراوي رئيساً للجمهورية، ابلغ سهيل الزميلة مي كحالة أن ابراهيم سوف يكون مندوبنا في المقر الرئاسي المؤقت. يومها بدأت التعلم اليومي لأدوات المهنة من سهيل.
في ما يشبه المسح الأمني، طلب مني سهيل التعرف إلى كل العاملين في المقر المؤقت: المستشارين سيمون كرم وفارس بويز، والدبلوماسي العريق سهيل الشماس. كان لا يرى حدوداً للعمل المهني. الاختبار الاول معه، كان عندما ابغلته نيتي والزميل يونس عودة من «صوت الشعب» حضور مؤتمر صحافي للعماد عون في قصر بعبدا، رحّب بالفكرة وسأل عن الترتيبات. أبلغته أن زميلنا في «الأنوار» منير نجار قد رتب الأمور. كان منير عقيقي نقيباً في المخابرات العسكرية، يتولى التواصل مع الإعلاميين، وهو رتّب الانتقال عبر معبر المتحف نحو القصر الجمهوري دون ان يتعرض لنا احد. وبعد عدة أشهر، كنا في المكتب إياه، عندما وصل نبأ تعرض عون لمحاولة اغتيال في القصر. لم نعرف شيئاً عن الحادثة. اتصلت بيوسف الأندري مستفسراً، فرد ببرودة غير متوقعة، ثم فاجأني: هل تريد التأكد ما إذا كنتم قد قتلتم الجنرال؟
الصدمة بادية على وجه سهيل. مرت دقائق قبل أن نعرف من الرفاق في الجريدة أن منفذ الهجوم هو فرانسوا حلال. شاب جنوبي، كان قد التحق بوحدة سرية في الحزب. وكان القرار يومها مصدره جورج حاوي، وحجّته، انه إذا تم التخلص من عون، فإن الجيش السوري لن يقدر على الدخول الى المناطق الشرقية. كان سهيل الأشد احتجاجاً على الأمر. عدّ ما حصل بمثابة جريمة غير مبررة. كان يسأل: لماذا لا يعلن الحزب موقفاً رافضاً لمبدأ دخول الجيش السوري الى هناك، حتى ولو كان الأمر بتفاهم مع اميركا والسعودية ودول عالمية أخرى؟
مر على تلك الطاولة حشد من الصحافيين المنتشرين حالياً في وسائل إعلام لبنانية وعربية. زملاء مثل سمير رزق (سكرتير تحرير في قناة العربية) وفاطمة حوحو (من أسرة «المستقبل») وحسن مقلد (رئيس تحرير الاقتصاد والإعمار) وحسام عيتاني (كاتب في صحيفة الحياة) وشقيقه فداء عيتاني (الكاتب  في «الأخبار») ثم زاهي وهبي (الذي صار يكتب مقالة يومية على الصفحة الثالثة وهو يغيظ الآخرين ويتوعد الزملاء بأنه سيكون نجماً شهيراً وسوف يسعون الى إلقاء التحية عليه) رافقه في حينه صديق القرية وأيام المراهقة اسماعيل فقيه (الشاعر البرتقالي كما سماه سهيل، او الشاعر السكافي، في اشارة الى السكّاف الذي يصلح الاحذية، بعدما دخل علينا اسماعيل مرة صارخاً بنا لأن نستمع الى آخر قصائده، وقال يومها: في قلبي حذاء يبحث عن قدم امراة)، علماً أن سهيل لم يكن يخفي إعجابه بحماسة زاهي واسماعيل، ودعوته اياهما إلى عدم التصادم مع الياس شاكر مسؤول القسم الثقافي بمعاونة الراحلة إلهام ابو مراد.
مر كثيرون على ذلك الطابق، وكان سهيل مقصدهم جميعاً. الذين يهربون من طلبات نبيل حاوي (الذي انتقل للعمل مع سهيل في القبس الكويتية ولا يزال) في إعداد المواد، او من استعجال رئيس التحرير ملحم ابو رزق (الوحيد الذي لا يزال يعمل في وسائل إعلام الحزب وهو مسؤول التحرير الحالي في اذاعة صوت الشعب). كذلك كان سهيل مركز الجذب للعديد من الزميلات والصبايا اللواتي يلجأن اليه للحصول على خبرية، او على طريقة تواصل مع هذا او ذاك من المسؤولين، أو على فكرة لتحقيق او موضوع، او حتى للغنج الذي كان سهيل ينهيه بعبارته السحرية «آكلة تاكلك».
ولد سهيل من عائلة فقيرة في بلدة جاج الجبيلية. قصد كلية التربية في الجامعة اللبنانية. وبعد اندلاع الحرب الاهلية، انتقل مع آخرين من الذين هربوا من المنطقة الشرقية الى غرب بيروت، تفرغ في للحزب الشيوعي، وعمل محرراً في جريدة «النداء»، ثم استقر في منزل صغير في منطقة عائشة بكار، يعيش معه فيه أخوه شربل (احد ابطال جبهة المقاومة الوطنية الذي ابقته اسرائيل لفترة طويلة في معتقل أنصار ومات بنوبة قلبية اثناء الاحتفال بعيد التحرير بعد عام 2000)، وكانت شقيقته نجاة تتولى رعايتهما بديلة عن الأم، وهي التي عملت في بنك الجمّال قبل ان تنتقل لاحقاً مع سهيل الى منطقة عوكر وتتزوح لترحل بعد صراع مع السرطان. وبقي له شقيقة في الخارج وشقيقتين في لبنان تعيشان في الشمال.
كان سهيل من دون عائلة. فقد والديه مبكراً. كان هو واستمر، مسؤولاً عن اعالة كل العائلة، وعن مواكبة الحاجات الملحّة في الحياة اليومية. وكان السؤال الدائم الذي يزعجه ويريحه في آن: هل ستتزوج يوماً يا رفيق؟ لم يكن يجيب بنحو حاسم، وإن كان قد واجه بعد سفره الى الكويت مشكلة «العشق الممنوع» حيث أغرم بمن يصعب عليه الزواج بها لأسباب وأسباب.. وظل على حاله هذه حتى توفي.
لم يكن سهيل يقدر على إنجاز أمر ويرتاح. في ظل عمله في «النداء»، كان مهموماً بوضع أخيه شربل. بعد اشهر على احتلال اسرائيل لبيروت في عام 1982 كان شربل قد صنع ارضية من المتفجرات في المنزل الصغير في زاروب العلية، ومخزناً للأسلحة لم يكن ممكناً أن يعرف عنه احد شيئاً. ربما فوجئ سهيل بالأمر، لكنه كان يعرف، من رفاق شربل، انه منخرط في عمل سري كُشف يوم اعتقلته قوات الاحتلال اثناء قيامه بمهمة في الجنوب. ظل سهيل صامتاً، لا يتحدث سوى الى نفسه عن مشاكله الشخصية. وعندما خرج شربل من المعتقل، كان على سهيل مساعدته في توفير عمل، وفي التحول الى انسان مسؤول عن نفسه ايضاً. لكن شربل احس ذات مرة بضيق في صدره، فسارعت طبيبة الى تحذيره من مشكلة في القلب. وعندما اصيب بنوبة أوجبت علاجه، كان سهيل يجلس الى جانبه في المستشف حين عرض عليه الطبيب ان يجري له فحوصات للتأكد من وضعه هو الآخر. وكانت الصدمة أن كان على سهيل الخضوع فوراً لعملية «قلب مفتوح» عاش بعدها مع مجموعة جديدة من الأدوية التي اضيفت الى دواء الضغط الذي ظل ملازماً له، قبل ان ينتكس لاحقاً بعد وفاة شربل، ثم مرض نجاة ووفاتها، ثم الحادثة التي أدّت الى تعرضه لجرثومة أتعبته لسنوات قبل بتر اصابع من رجله.. ويتنقل بين بيروت والكويت للعلاج. لكنه لم يكن يستسلم، وكان يفضل في كل الاوقات، عدم الحديث عن مشكلته الصحية، وأبقاء الامر في أضيق دائرة ممكنة، ولأجل ذلك كان يحرص على القيام بواجبات مهنية، مثل جولة مواعيد ولقاءات سياسية كلما زار لبنان. كان يلتقي كل من امكنه الاجتماع به، من اطراف النزاع في لبنان. ولو انه صار اكثر ميلاً إلى جهة من جهتي الانقسام الحاد في لبنان اليوم.
يوم غزا صدام حسين الكويت كان سهيل الشخص الثاني بعد سليم الحص الذي اصر على ادانة ما حصل. كان قاسياً في النقاش مع الذين حاولوا تبرير فعلة صدام. وربما كانت المرة الاولى التي يكشف فيها سهيل عن قراءته النقدية القاسية لما يسميه موقف سوريا من لبنان. رأى في حدث الكويت شيئاً مماثلاً لما يجري في لبنان. كان العراق بالنسبة إليه الوجه الآخر لسوريا، وكانت الكويت مثل لبنان، دولة صغيرة عرضة للضم او الاحتواء. وعندما زار الكويتيون لبنان لشكر وسائل الإعلام على دعمها مقاومة الاحتلال، كان سهيل من بين قلة ذهبوا الى تفقد الدولة بعد خروج قوات صدام حسين. روى لنا كثيراً عن مشروع إطفاء آبار النفط المشتعلة، ثم أبلغني بأنه سوف ينتقل الى العمل هناك في جريدة «القبس». وقال لي إن صحافياً من آل المطوع يتولى اعادة اصدار جريدة «الوطن» وهو يريد محررين وسكرتارية تحرير. قال إنه اوصى بي.. ثم رتّب لي موعداً مع الرجل في فندق البريستول. ذهبت واتفقت معه على برنامج عمل وأعددت له قائمة من الزملاء الذين يودون السفر الى الكويت. بعد شهرين، كان الجميع هناك، لكنني بقيت في بيروت، لأن السلطات الكويتية لم تمنحني تأشيرة دخول. اكتشف لاحقاً أن السبب متعلق بأنني ابن محمد علي الأمين، اللبناني المتهم بإنشاء حزب شيوعي في الكويت خلال الخمسينيات.
كان سهيل يتابع أخبار انهيار الحزب الشيوعي، وبعد سقوط غورباتشوف في الاتحاد السوفياتي، لم يكن سهيل من الذين احتجّوا بشدة، بخلاف غالبية الشيوعيين. بل على العكس، فقد ثارت ثائرته يوم قام ضباط كبار في الجيش، بالانقلاب على غورباتشوف، وبرزت الحماسة عند الشيوعيين في لبنان والعالم العربي للقول بأن الأمر انتهى. دعم سهيل حركة يلتسين يومها. وأذكر جيداً قوله: الشعب يريد هذا التغيير. وعشية اتخاذ المكتب السياسي للحزب قراره بوقف الإصدار اليومي لجريدة «النداء» وتحويلها الى اسبوعية، قال لي سهيل بأن تغييراً حصل في ادارة التحرير في «السفير»، وأنه بعد مغادرة باسم السبع، ومحمد بنجك، وتولّي فيصل سلمان ادارة التحرير، هم يبحثون عن كوادر جديدة. قال لي إنه اوصى فيصلاً بي. وأذكر اننا أصدرنا العدد الاخير من «النداء» في الواحد والثلاثين من كانون الثاني من عام 1992، وبعدها بيومين، التحقت بـ«السفير». كانت نصيحة سهيل الأولى: تعلّم كل شيء، وتجاوز بأسرع وقت ممكن، ذهنية الصحافة الحزبية.
كانت علاقة سهيل بباقي الصحافيين اللبنانيين قوية جداً. لطالما دعاه طلال سلمان إلى الانتقال الى «السفير». كان مثل الآخرين يحبه ويقدّره شخصياً وإنسانياً، وقبل كل ذلك مهنياً. وفي فترة إعداد اتفاق الطائف وما تلاها، كان سهيل يقول لي إن علينا تسريب ما لدينا من أخبار خاصة في ذلك الحين الى اصدقاء في «السفير» أو في «النهار». كنا نضحك لأن «النداء» ليست جريدة منافسة على السبق الصحافي. وهو ما اتاح بناء علاقات ثقة مع الآخرين، كان لها دورها في مرحلة الانتقال الى عمل جديد.
سهيل قارئ نهم. وهو كائن سياسي. حتى عندما ينتظر سيارة التاكسي أو من يقلّه من أمام مبنى «النداء» كان يحمل كتاباً أو صحيفة ويقرأ.. رغم ان سهيل كان من مدمني رياضة المشي: من المنزل الى المكتب، او الى الحمراء للقاء اصدقاء في قهوة، أو زيارة بعض السياسيين من الذين يقطنون المنطقة.. حتى بعد الحادثة التي اصابت قدمه، حاول أن يبقي على هذه الهواية قدر المستطاع.
هوسه بالتاريخ جعله يحفظ تاريخ كل القبائل العربية. كان يقدر على تفصيل نسب هذه العائلة او تلك، ويعيد صياغة الموقف من تاريخ هذه البلاد او تلك المنطقة. وهو الذي رأى أن التجربة اللبنانية غنية كفاية، استفاد من وجوده في الكويت للتعرف اكثر إلى التنوع لناحية الاصول التاريخية والاجتماعية. وخلال سنوات قليلة، تحول سهيل الى خبير محلّف في الشؤون الداخلية الكويتية، يقصده السياسيون من كل الانتماءات، يستشيرونه في مسائل بعضها لها صلة بقوانين تصدر عن مجلس النواب هناك. كان قريباً من التيارات المتنافسة. ونجح في انتزاع مساحة له، لم تؤثر على علاقته والتصاقه بمؤسسة «القبس»، الى درجة أن جاسم الصقر فوجئ لما اعتذر سهيل عن مرافقته في رحلته الجديدة خارج «القبس». وتفهّم الأخير ذلك.
ثم صار مهجوساً بوضع تصورات لآليات ونظم الحكم الأفضل التي تعالج مشكلة الأقليات والأكثريات، والعلاقة بين الدين والدولة، ومسألة اليسار الاجتماعي وتوزيع الثروة. ومنذ عشرين عاماً وأكثر، وسهيل ينوي كتابة «التاريخ». في كل مشوار كان يتحدث عما اضافه وعدله في مخطوطة لم تر النور. وفي مرات عدة كان يقول إنه بات جاهزاً للنشر.. ثم يتراجع. كان إصدار الكتاب عنده مثل مشروع الزواج، لا احد يعرف سر عدم الاقدام فيه. وفي فترة لاحقة على عام 2000 فكر سهيل بالسفر الى فرنسا والعيش هناك والتفرغ للكتابة. لكن اشياء كثيرة لم تسعفه، ولم تتح له تحقيق هذا الحلم.
تجربة سهيل في الصحافة اللبنانية، وفي السياسة اللبنانية، غنية أكثر مما يتصور كثيرون. كان واحداً من قلة قليلة، أمكنها الاحتفاظ بعلاقات مع الجميع. مع الجميع دون استثناء. كان بوسعه الحصول على تفسيرات كافية لمواقف هذه الجهة او تلك. وملك مخزوناً من الأخبار والحكايات والتفاصيل، تماماً مثل حكاية اتفاق الطائف من أوله الى آخره. لكنه لم ينشر شيئاً، وربما اتاح له عدم النشر الحصول على المزيد من الأخبار.. بالاضافة الى انه كان يصعب على سياسي أو إعلامي او شخصية عامة تفادي ودّ الرجل.
رغم ان سهيل كان مستشاراً دائماً لكل من لديه مشروع صحافي، في الكويت كما في بيروت، ما زلت أذكر رفضه بلباقته العودة مرافقاً لنا في اطلاق «الأخبار». ورغم اعجابه الكبير بعقل جوزف سماحة ومهنيته، وأمله في تقديم تجربة جديدة في الصحافة اللبنانية، كان يخفي وراء كل ذلك موقفاً سياسياً واضحاً ولو عمل هو على منع تحول موقفه الى عثرة امام الاحتفاظ بصداقات وبعلاقات مديدة.
وفي ظل الانقسام السياسي الحاد الذي عاشه لبنان في العقد الأخير، لم يكن سهيل عبود على الحياد. ظل موقفه من مقاومة اسرائيل على ما هو عليه لناحية أنها حق. لكن ملاحظاته على أداء حزب الله كانت كثيرة. وكان حاسما في معارضة السياسة السورية في لبنان. وعندما تعزز الانقسام داخل الحزب الشيوعي، رفض الانخراط في اللعبة، وإن حافظ على تواصل اكبر مع مجموعة اليسار الديموقراطي دون ان يقطع مع الحزب الرسمي كما كان يسميه. لم تعجبه اللغة الطائفية والعنصرية التي قامت. ومخزونه في مواجهة الكتائب لم يجعله معادياً لفريق «القوات» أو قريباً من العماد ميشال عون. ربما كان يرى في الموقف السياسي للكنيسة المارونية ما هو الأصح في مواجهة الشراكة التي قامت بين عامي 1992 و2005.
أبيض هو سهيل. وجهه ابيض، وقلبه ايضاً، وكفه بيضاء، وقلمه الغزير كذلك. لم يتلوث بكل موبقات لبنان وسياسييه وصحافته. لم يكن بمقدور احد اتهامه بالانحياز الحاد، او بأنه كتب كلاما غير صحيح، او نسب الى احد معلومة أو قولاً. كان استاذاً في الدقة وفي الشرح وفي الاختصار.