سيعثر المنقبون يوماً على دمعة تحجرت في القلب حزناً عليه.دمعة في نواتها ابتسامات كثيرة تعود إلى زمن مضى كإغفاءة عصر.
أمس كان هنا: أخضر ملء الحقول، أبيض كصبيحة مثلجة، ضاحكاً وسع الميادين.
لم يكن سهيل عبود مجرد «رفيق» أو «زميل». سنواتنا السمان معاً في جريدة «النداء» كشفت لنا الإنسان الذي فيه،

والذي كلما ازداد معرفة، ازداد خفراً وتواضعاً ودماثة.
لم أسمعه مرةً رافعاً صوته، لم أره ماشياً في الأرض بطراً. كأنه ما أراد أن يكون سوى صحافي ماهر متمرس يُخفي الكثير من موهبته وحنكته خلف ابتسامة تُخفي هي الأخرى الكثير مما في النفس من أفراح وأتراح وانتصارات وانكسارات وخيبات أمل، وخصوصاً الأمل الوطني العام!
بغيابه المباغت كصاعقة ضربت القلب والروح، وأضاءت الذاكرة على كل تلك اللحظات المثمرة رغم صعوبة الأيام آنذاك، حيث كان يدور الجزء الأكبر من يومياتنا في مساحات قليلة من بيروت لا تتعدى الحمرا والوتوات بفعل حروب «الأخوة الأعداء» وصراعات الميليشيات في الزواريب والأزقة، أو بفعل حروب «التحرير» و«الإلغاء» وسواها من شعارات وتسميات في قاموس الحروب اللبنانية الكثيرة التي انحرفت كلياً عن أهدافها المعلنة وعناوينها المخاتلة.
بغيابه المباغت كطعنة في الظهر، تتفتح ورود الذاكرة وتشتعل نار الذكريات التي تمتد على بساط سنوات من متعة العمل الصحافي و«الرفاقي» مع سهيل عبود، الذي كان (ما أقسى الفعل الماضي الناقص سهيلاً) بحضوره الأليف ومحياه الودود يجعل الليالي الموحشات حيث لا أنيس ولا جليس إلا الأخبار العاجلة عن موت هنا وموت هناك... يجعلها أكثر مؤانسةً ومودة وأملاً بأن الآتي أجمل، وكم اندلعت ضحكاتنا تعلو على صوت القذائف ودوي الصواريخ. أَتَذْكُرُ يا ملحم أبو رزق، يا إلياس شاكر، يا نبيل حاوي وحسن الشامي وطوني فرنسيس وفاطمة حوحو وصبحي زعيتر وحسن سلامة ومصطفى ياسين وإبراهيم الأمين وحسن مقلد... يا كل الرفاق والزملاء الذين تضج الذاكرة بأسمائكم الآن وتظل ناقصةً بلا سهيل وحضوره الأنيس.
كم سهرنا معاً على إيقاع القصف العشوائي ودويّ الصواريخ في ليل بيروت! كم تناولنا سندويشاً أو منقوشة على عجل كي لا تتأخر الجريدة عن قرائها في الصباح! كم كتبنا معاً في ملجأ الصحيفة حيث اختلط حبرنا بعرقنا ودموعنا على رفاق سبقونا وما بدلوا تبديلا! كم ابتهجنا لخبر عملية ناجحة نفذها أبطال «جمول» ضد جنود الاحتلال الإسرائيلي! كم دارت نقاشاتنا وحواراتنا تحت أزيز الرصاص الذي حاد عن الجهة الصواب ليستهدفنا فقط لأننا أردنا أن نبقى كما نحن، أبرياء من دم وطن تنحره طوائفه على مذابح صراعاتها وحروبها التي لا تكلّ ولا تمل ولا ترتاح إلا استعداداً لحرب مقبلة.
كم وكم وكم... وكم كان برباطة جأشه وهدوء أعصابه وديمومة ابتسامته قادراً على بث الطمأنينة والهدوء، رغم كل الزمهرير الطائفي والعصبيات القاتلة والتناحر الانتحاري والموت الرابض عند العتبات والمفارق.
لكن حين لم تعد تكفي ابتسامة في مواجهة رصاصة، وحين لم يعد الرصاص يأتي فقط من جهة الابتسام، وحين طافت الطوائف بعضها على بعض، وكلها علينا، لم يجد «الرفيق» سهيل بداً مما ليس منه بدُّ. حمل قلمه وحقيبته وابتسامته ومضى إلى الكويت، إلى «قبس» صحافتها التي استقبلته واحتضنته، فبادلها الرحابة بالحرفية، والاستقبال بالخبرة العالية، وملح المودة بحبر الالتزام المهني النبيل الصادق، فكان قلمه هناك، وقلبه في بيروت التي تعرفه جيداً كما تعرف الشجرة الوارفة أغصانها الضاربة في الأعالي.
لم يكن سهيل يريد أن يكون أكثر من صحافي. هو المنتمي إلى الصحافة يوم كانت لا تمنح صفتها إلا لمن يستحق. كانت الصحافة عنده غاية لا وسيلة. لم يرد منها أن تكون معبراً إلا للتعبير عن هموم الناس ـــــ الفقراء منهم على وجه الخصوص ـــــ الذين انتمى إليهم وحمل آمالهم وآلامهم طوال مشواره الحافل، ولكن بصمت وروية وخفر وطول أناة.
لا تتسع هذه العجالة لكل ما في النفس والقلب والذاكرة والبال عن سهيل عبود، وعن سنوات خضراء برفقته وزمالته، لكنني إذ أحبس الدمع وأذرف الحبر، لا بد لي أن أسمّيه: الشيوعي الأبيض... لا لكونه مهادناً أو مسالماً، بل لكونه ظل نقياً، نظيفاً، لم يحل انتماؤه الأديولوجي يوماً بينه وبين نزاهة القلم والقلب والوجدان، وها هو يعود إلى بلدته «جاج» كما خرج منها يوماً عارياً إلّا من نقاء السريرة ونصاعة التجربة وبياض القلب والوجه والكفين. فكيف للتراب الذي يستعيدنا أن يحفظ بياضنا بلا كفن، وكيف للأحمر في أوردتنا أن يشتعل مجدداً شوقاً للبياض؟
  


الوداع في جاج اليوم

غيّب الموت فجر السبت الماضي، الزميل سهيل عبود من أسرة تحرير «القبس» الكويتية، عن عمر ناهز الثامنة والخمسين عاماً. وقد نقل جثمانه إلى بيروت بعد ظهر أمس الأحد، على أن يقام له جناز ويوارى في الثرى عند الرابعة من بعد ظهر اليوم الاثنين في مسقط رأسه جاج في قضاء جبيل.
وقد نعت أسرة الراحل الزميل عبود، وأعلنت مواعيد التشييع وتقبل التعازي بعد الدفن في بلدته، ويومي غد وبعد غد الأربعاء في البترون. كذلك نعته أسرة «القبس»، ونعاه زملاء له من الصحافة اللبنانية والعربية، وعدد من المواقع الإخبارية العربية. وتنعى «الأخبار» الزميل عبود، الذي كان رفيقاً وزميلاً لقسم كبير من العاملين فيها، وكان أحد القلائل الذين يمكن اللجوء إليهم لمعالجة أمر أو استشارته في خطوة أو قرار.
ونعت أسرة جريدة «النداء» التي بدأ سهيل عمله الصحافي فيها، في سبعينيات القرن الماضي، وقال بيانها إن الزميل عبود «كان خير نموذج لما يجب أن يكون عليه الصحافي؛ فهو كان يتمتع بالكفاءة العالية إلى جانب الحس النقدي اللاذع والصراحة المترافقة مع النزاهة في إعطاء كل ذي حق حقه وفي نقل الخبر الصحيح، والذي بفقدانه، فقدت «النداء» كاتباً بارزاً من الذين تركوا بصماتهم في ثناياها لأكثر من عشرين عاماً، محللاً في الأوضاع الداخلية وشاهراً قلمه المقاوم ضد الاحتلال الصهيوني وفي سبيل لبنان الديموقراطي العلماني السيد والمستقل. كما فقدت الصحافة اللبنانية والعربية وجهاً مشرقاً من وجوهها وممثلاً كبيراً من ممثليها».
وكان الطبيب الشرعي في دولة الكويت قد أفاد بأن الوفاة ناجمة عن ذبحة قلبية حادة ناجمة عن ارتفاع كبير في ضغط الدم، وأن الوفاة حصلت عند السادسة من صباح السبت.
ولد الراحل عبود عام 1953. وتابع دروسه في كلية التربية في الجامعة اللبنانية، لكنه انتقل إلى العمل الصحافي بعد اندلاع الحرب الأهلية. والده نعمة الله عبود ووالدته نهى سليمان. وله شقيق متوفى هو شربل وشقيقة متوفاة هي نجاة، وثلاث شقيقات هنّ: إلهام زوجة بيار السمراني، وعفاف زوجة جورج عيراني وجاكلين زوجة ناصيف السمراني.