ترجمة سعدي يوسفتقول آنّا أخماتوفا (1889 - 1966) إن الشاعرَ شخصٌ لا يُمْكـنُكَ أن تعطـيه شيئاً، كما لا يمكنك أن تأخذ مــنه
شـيئاً!
أي أن الشاعرَ مكتفٍ بذاتِه، قائمٌ بذاته، ولِذاتِهِ.
إنه كالبحر.
يقول أهلُ اليمنِ: البحرُ يعطي ويأخذُ.
قالَها لي صيّادُ سمَكٍ على شاطئ مهجورٍ في عدن، غير بعيد عن الجولد مور، حين كدتُ أغرقُ في موجٍ متدافعٍ من البحر المفتوح.

كان الدم يغمر جسدي من القواقعِ المسنّنة التي جرّحتْني كالخناجرِ، في محاولاتي الإمساك بالجُرْفِ؛ فنثرَ الرملَ على جراحي، وهو يقول:
البحرُ يعطي ويأخذُ!
إذاً، كاد البحرُ يأخذني...
البحرُ يعطي ويأخذُ؛
لكنك لا تستطيع أن تعطيَ البحر شيئاً،
أو أن تأخذ البحرَ ملْكاً خالصاً لك.

■ ■ ■


أنّا أخماتوفا قالت هذا في مقابلةٍ أخيرةٍ لها، بعد ستة عقودٍ من ممارسة الشِعر، فنّاً رفيعاً.
أزعُمُ أن الشاعرة الكبيرة، كانت تشير إلى العلاقة بين الشاعر والمجتمع.
وأمضي في زعمي فأقول إن المجتمع يريدُ أن يعطيَ الشاعرَ عطاياه الرخيصةَ: رضا السلطة. المال. الوجاهة...
لكنه (أي المجتمع) يريد أن يسلبَ الشاعرَ، جوهرَه، يريد أن يسلبَ حرّيتَه، وفرادتَه، وصوتَه المستقلّ. يريدُ أن يسلبَ الصنجَ العالي.
وباختصار شديدٍ: يريدُ أن ينتفي الشاعرُ ويختفي، كي يظل المجتمع سعيداً بدونيّتِه، وجهلِه، وقذارتِه، ووجهائه التافهين.
وحكّامِه الأنجاس، وسياسيّيـه الجهَلة.


■ ■ ■


آنّا أخماتوفا، كانت حتى آخر يومٍ من حياتِها الغنيّةِ، تحت هذه الوطأة الشرّيرة، من مجتمعٍ قيلَ إنه حلمُ البشر الأسمى!
لكن الشاعرة الرائعة ظلّتْ صامدةً عقوداً ستّة.
لكأنها ترددُ مع المتنبي القتيل:
«محتقَرٌ في همّتي
كشعرةٍ في مفرِقي»!.
هنا قصيدتان لها:

في ذكرى م .ب

أمنحُك هذه، بدلاً من الزهور على قبرك،
بدلاً من إيقادِ البخورِ؛
لقد عشتَ على الكفافِ
واحتفظتَ حتى النهايةِ بتلك الكبرياء.
شربتَ النبيذَ، وأطلقتَ الدعابةَ كما لم يطْلِقْها أحدٌ
واختنقتَ بين تلك الجدرانِ الضاغطةِ،
وأنت، نفسُك، أدخلتَ تلك الضيفَةَ الرهيبَةَ
وبقِيتَ وحيداً معها.
أنت لم تَعُدْ، ولا شيءَ يُسمَعُ، في أيّ مكانٍ
عن حياتك النبيلةِ الأسيّةِ،
صوتي، وحده، مثل نايٍ
يعلو في جنازتك الصامتةِ.
آهٍ ...
مَن تُراه يصدِّقُ، أني، نصف المجنونة، أنا المنتحبة على الأيام الخوالي،
أنا المتأجِّجة على اللهبِ الخفيفِ،
أنا التي فقدتُ كلَّ شيءٍ، ونسِيتُ كلَّ أحدٍ -
سوفَ أتذكّرُ الشخصَ
المـفْعَمَ قوّةً وإرادةً وتطلُّعاً لامعاً
الذي حدّثَني، حتى أمسِ، كما بدا لي،
متكتِّماً على ارتجافةِ الألمِ المميتِ.

حكايةُ الخاتمِ الأسوَد

(1)


جَدّتي التتريّةُ
نادراً ما منحتْني هدايا؛
بل كانت حانقةً عليَّ شديداً
لأني عُمِّدْتُ.
لكنّها رقّتْ عليَّ، قبل موتِها
وأسِفَتْ، للمرة الأولى
متنهِّدةً:
«يا لَلسنين!
هاهي ذي حفيدتي، غدت امرأةً !»
لقد غفرتْ لي حماقاتي
وأهدتْني خاتمَها الأسودَ
مُعلِنةً:
الخاتمُ لها،
ولسوفَ تُسعَدُ بهِ
خيراً مني.

(2)


قلتُ لأصدقائي:
«ثمّتَ من الحزنِ عميمٌ، ومن السعادةِ قليلٌ»،
وغادرتُ، مُخْفيةً وجهي؛
لقد أضعتُ الخاتمَ.
وقال أصدقائي:
«بحثْنا عن الخاتمِ في كل مكانٍ،
في الرملِ على امتدادِ البحرِ،
وفي المرْجِ بين الصنوبرات».

■ ■ ■


الأشجعُ بينهم، لحِقَ بي في الزُّقاقِ
وأرادَ إقناعي بالتلَبُّثِ حتى المساءِ.
دُهِشْتُ لنصيحتِه،
وغضِبْتُ على صديقي لأن عينَيهِ كانتا رقيقتَينِ.
«لِمَ أحتاجُكمْ ؟
كلُّ ما تفعلونه أنكم تضحكون
وتتنافجونَ حول تقديمِ الزهورِ».
لقد طردتُهم جميعاً.
(3)
وحين عدتُ إلى غرفتي
انتحبْتُ مثلَ طيرٍ جارحٍ
منطرحةً على الفِراشِ
لأتذكّرَ للمرّةِ المائةِ:
كيف جلستُ إلى المائدةِ البلّوطِ
أتعشّى
كيف نظرتُ إلى عينَيه السوداوينِ
وكيف لم آكُلْ ولم أشربْ...
كيف تحت مفْرَشِ المائدةِ المُفَوَّفِ
خلعتُ الخاتمَ الأسودَ،
كيف نظرَ، هو، في عينَيّ
ثم نهضَ، وخرجَ إلى الرُّواقِ.

هُمْ لن يجدوا كنزاً يأتونَ بهِ إليَّ!
في البعيدِ
فوقَ القاربِ السريعِ
تُمْسي السماءُ قرمزاً
ويُمسي الشراعُ أبيضَ...