لم توفّق السفارة الأميركية في دمشق في برامجها الإصلاحية، فمنذ تطويرها استراتيجية الإصلاح الديموقراطي لتنفيذها في سوريا منذ 2005، والمعوقات لعملها تتوالى، فأضحى منذ ذلك التاريخ، معظم مصادرها في السجون، فيما منع عدد كبير من المعارضين والعاملين في مجال حقوق الإنسان والمجتمع المدني من مغادرة البلاد.
هذه الهواجس الأميركية، إلى جانب معلومات عن تمويل السفارة لبعض فصائل المعارضة السورية في الخارج، تنقلها برقيات دبلوماسية أميركية صادرة عن السفارة الأميركية في دمشق، حصلت عليها «الأخبار». ففي برقية تعود ليوم 23 كانون الأول 2007 (07DAMASCUS1193)، يتحسر المكلف بالأعمال تود هولمستروم، لأنّ القانون السوري يجعل من المستحيل على أي أحد أن ينال تمويلاً غير سوري، وكذلك لا يسمح للمنظمات غير الحكومية الدولية، ذات النشاط السياسي بالعمل في سوريا.
لذلك، يقترح هولمستروم على وزارة الخارجية تمويل بعض النشاطات التي يمكن من خلالها دعم المعارضة السورية، عبر ثلاث طرق. أولاً: مساندة السجناء السياسيين والمعارضين ومساعدة عائلاتهم، ثانياً: مساعدة المعارضة السياسية على نشر رسالتها والتوسع في الداخل، وثالثاً: مساعدة المعارضين خارج سوريا، ممن يحظون بثقة المعارضين في الداخل.
وتضيف البرقية أنّ التصريحات العلنية، التي تدين قمع المعارضين لا تكفي، وأنّ مصادر السفارة في دمشق أكدت هذه النقطة، وطلبت فعل المزيد. وبعد تعداد الوسائل الكلامية التي يمكن عبرها مساندة عائلات السجناء، يقترح هولمستروم استخدام صندوقين لتوزيع الأموال عبرهما. الأول هو صندوق مكتب الديموقراطية وحقوق الإنسان والعمال (DRL)، والثاني هو صندوق مبادرة شراكة الشرق الأوسط (MEPI)، التابعان لوزارة الخارجية. وتقترح السفارة أن يكون ذلك عبر استخدام المنظمات غير الحكومية العالمية، مثل «فريدوم هاوس». هذا في ما يتعلق بأول وسيلة مساعدة.
أما الثانية، أي نشر رسالة المعارضة، فتقترح السفارة تدريب الصحافيين على موضوعات حقوق الإنسان، والمساعدة في إنشاء مواقع للصحافة الحرة، الإلكترونية والمكتوبة. أما الأهم فهو تسهيل حصول المجلس الوطني لإعلان دمشق على برنامج تلفزيوني لمرة او مرتين في الأسبوع. وكذلك، يقترح هولمستروم تشجيع قناة «الحرة» الأميركية، الناطقة باللغة العربية، على التركيز على قضايا حقوق الإنسان في دول الشرق الأوسط، ومنها سوريا.
وتقترح البرقية مساعدة المنظمات غير الحكومية على التشبيك مع منظمات خارج البلاد (مثل نقابة المحامين الأميركيين) وتنمية عملها في الداخل. وبرأي هولمستروم يمكن الاتصال بالكنائس مثلاً، كي توفّر غطاءً لمشاريع المنظمات غير الحكومية، وتدريبها. ومن أحد الحلول لمنح مال للناشطين في حقوق الإنسان والجمعيات دون إثارة شكوك الحكومة السورية، تسمية هؤلاء لجوائز تمنحها مؤسسات أميركية وأوروبية معروفة.
لكن هولمستروم لا يخفي، في نهاية البرقية، معرفته المسبقة بأنّ بعض هذه المشاريع المقترحة قد تفشل بسبب القيود السورية على العمل في البلاد.
وتبدو هذه البرقية متناسبة مع إعلان الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن، في 17 شباط 2006، نيته تخصيص خمسة ملايين دولار «لتسريع عمل الإصلاحيين في سوريا»، أي دعم المعارضة. كلام لم يعجب المعارضين أنفسهم، الذين رأوا الإعلان «ساذجاً وضاراً»، وفق ما تنقله برقية أخرى مؤرخة في 21 شباط 2006، بعد أيام على كلام بوش (06DAMASCUS701).
وتنقل الوثيقة عن مصادر معارضة قولها إنّه كان من الأجدى إبقاء المبادرة سرية، وإنّ من الواضح أنّ الإعلان ليس اهتماماً بالمعارضة بل للضغط على النظام. وقال بعض المعارضين إنّه أصبح من الصعب على أي منهم ممن يتمتع بصدقية ولديه سمعة للحفاظ عليها أن يقبل تمويلاً. وأوضح بعض المعارضين أنّ الإعلان قد يفيد الحكومة السورية، فهي ستستخدمه ضدهم. وقال معارضون إنّ الحكومة السورية قد تشجع منظمات قريبة منها للتقدم بطلب الحصول على أموال المبادرة الأميركية، لتحرم المعارضين منها.
واللافت كان أنّ أحد المعارضين رأى المبلغ قليلاً جداً ولا يفيد، وخصوصاً أنّ «الولايات المتحدة تموّل المعارضة في السر من دون تأثير»، فيما اقترح معارض آخر أن تعمد أميركا للدخول في حوار مع النظام عوض خلق العوائق أمام حوار كهذا. معارض آخر قال إنّ تخصيص خمسة ملايين دولار فقط للمعارضة السورية، مقابل 75 مليوناً للمعارضة الإيرانية يطرح أسئلة حول الالتزام الأميركي بقضية السوريين.
في 2009، تقترح القائمة بالأعمال في السفارة الأميركية في سوريا، مورا كونيلي، السفيرة الحالية في بيروت، أن يصبح الخطاب الأميركي موجهاً أكثر نحو «إصلاح السلوك» السوري، عوضاً عن «تغيير النظام»، ما سيكون أكثر فاعلية. وتوضح برقية مؤرخة في 28 نيسان 2009 (09DAMASCUS306)، كتبتها كونيلي، أنّ محاولات الولايات المتحدة عزل الحكومة السورية أثّرت على عمل السفارة في الانخراط مباشرة في برامج المجتمع المدني.
وتورد كونيلي، في البرقية، البرامج التي أشرف عليها مكتب الديموقراطية وحقوق الإنسان والعمال (DRL)، ومبادرة شراكة الشرق الأوسط (MEPI)، دون تدخل مباشر من السفارة. وتقول البرقية إنّ برامج MEPI، منذ 2005 وصولاً إلى 2010، ستنال 12 مليون دولار. وتشير البرقية المذكورة إلى أنّ مبادرة MEPI منحت «مجلس كاليفورنيا للديموقراطية» مبلغ 6300562 دولاراً عبر «مبادرة تمكين المجتمع المدني». وتضيف أنّ مبادرة التمكين هذه هي مشروع مشترك بين المجلس و«شركاء محليين» نتجت منه مفاهيم عدّة للبث التلفزيوني، ستبدأ في نيسان 2009. تاريخ يصادف بدء بث قناة «بردى» المعارضة من لندن.
وتضيف البرقية أنّه عبر وساطة حركة العدالة والتنمية المعارضة، ترسل MEPI الأموال إلى سوريا. وتصف البرقية الحركة بأنّها تمثل إسلاميين معتدلين. وترى كونيلي أنّ التحدي الأكبر لاستراتيجية الولايات المتحدة لحقوق الإنسان في سوريا هو كيفية نصح الحكومة السورية بأنّ سماحها بوجود معارضة يدفع قدماً بالعلاقات الثنائية مع واشنطن. والأمر الثاني هو ألّا تمثّل الرعاية الأميركية للمجتمع المدني تحدياً لتلك العلاقات.
وتشير وثيقة صدرت بعد ثلاثة أشهر عن السفارة، في 8 تموز 2009 (09DAMASCUS477)، إلى خوف البعثة من أن تكون الحكومة السورية قد اخترقت حركة العدالة والتنمية المعارضة، وعلمت بشأن المشاريع الأميركية الحساسة في سوريا.
البرقية، التي تتناول الخلافات بين الموقعين على إعلان دمشق، وتحديداً بين الإخوان المسلمين وحركة العدالة والتنمية المعارضة، تفيد نقلاً عن مصدر معارض بأنّ حركة العدالة والتنمية تهمل أمنها الخاص، فتتحدث عن قضايا حساسة على الهاتف. وتقول البرقية إنّ بعض التقارير تتحدث عن خرق الاستخبارات السورية لحركة العدالة والتنمية واستخدام أعضائها لملاحقة البرامج الأميركية التي تعنى بالديموقراطية. وتضيف أنّه لو كانت الحكومة السورية فعلاً تعلم بشأن هذه البرامج وفضّلت ألّا تفصح عن ذلك، فإنّ ذلك يعني أنّها تعدّ لحملة للإيقاع بالناشطين الذين يتلقّون مساعدة خارجية. وتشير البرقية إلى أنّ نجاح العدالة والتنمية يعود في جزء منه الى علاقتها مع حكومة الولايات المتحدة.
وتوضح برقية أرسلت بعد ذلك بشهرين في 23 أيلول 2009 (09DAMASCUS692) أنّ بعض مخاوف السفارة مبررة، إذ تنقل عن بعض المعارضين ملاحقة الحكومة السورية لبعضهم وسؤالها الدائم عن البرامج الأميركية في البلاد. وسُئل المعارضون، وفق البرقية، أسئلة مباشرة عن علاقتهم بالسفارة الأميركية ووزارة الخارجية. كذلك سُئلوا عن نشاطات مجلس الديموقراطية الذي تموّله MEPI، وكذلك عن علاقاتهم ببعض المسؤولين الأميركيين الذين زاروا سوريا في الفترة التي سبقت إرسال البرقية.




تمويل «البردى» سوريّ مستقلّ

نشرت أمس صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية بعض الوثائق المذكورة أعلاه، وحاولت الحصول على تأكيدات بشأن العلاقات بين المعارضة السورية وبين وزارة الخارجية الأميركية. ونفت نائبة مساعد وزيرة الخارجية الأميركية تمارا ويتس، وهي مسؤولة عن ملف الديموقراطية وحقوق الإنسان في مكتب الشرق الأدنى في الوزارة، الذي يديره جيفري فيلتمان، أن تكون هذه الأخيرة تساند أي حزب أو حركة سياسية. وأضافت ويتس أنّ الوزارة تدعم مجموعة من المبادئ، وأجندة الإصلاح أينما كانت.
كذلك، لم يؤكد القيّمون على قناة «البردى» السورية المعارِضَة تلقّيهم أي أموال من الحكومة الأميركية. واتصلت الصحيفة بمسؤول الأخبار في القناة، مالك العبدة، الذي قال إنّه لا يعلم بشأن ذلك الموضوع. وأضاف أنّ القناة يموّلها رجال أعمال سوريون مستقلون، رافضاً الإفصاح عن أسمائهم. وأشار إلى أنّ لا علاقة بين القناة وحركة العدالة والتنمية، رغم أنّه أحد أعضاء مجلس إدارة الحركة. وقال العبدة للصحيفة «إذا كان هدفكم الإساءة لسمعة القناة، فلن أكمل هذه المقابلة».
من جهة ثانية، قال منتج سابق في القناة، يدعى أسامة منجد، للصحيفة إنّه لا يمكنه تأكيد أي مساعدة أميركية للمحطّة، فهو لم يكن يشرف على الأمور المالية. وأضاف «لم أتلقّ من جهتي أي فلس».
أما رئيس مجلس كاليفورنيا للديموقراطية، جايمس برينس، الذي تشير إحدى الوثائق إلى أنّ التمويل مرّ من خلاله، فقال إنّه غير مخوّل الحديث في هذه القضية. لكنّه قال إنّ المجلس يتلقّى بالفعل أموالاً من مبادرة شراكة الشرق الأوسط MEPI، لكن لا علاقة لها بمشاريع سورية. غير أن المتحدث باسم وزارة الخارجية الاميركية، إدوارد فاسكيز، قال إنّ MEPI خصصت 7.5 ملايين دولار منذ 2005 لمشاريع في سوريا، وهو رقم أقل ممّا تشير إليه إحدى البرقيات، أي 12 مليوناً.