القاهرة | لبرهة، يشعر المتجول في شوارع العاصمة المصرية بمجموعة من التغييرات التي تكشف عن مزاج قاهري جديد. بالقرب من ميدان طلعت حرب، عادت المكتبات بعد سنوات من اختفائها. في الثمانينات، بدأت مصر تجني آثار الانفتاح الاقتصادي الذي أحدث تحولاً سلبياً في منظومة القيم على نحو أدى إلى اختفاء المكتبات وظهور محال الأحذية والواجبات السريعة بدلاً منها. لكن هل تعني عودة المكتبات زيادة في عدد القراء؟
تصعب الإجابة على هذا السؤال رغم انتشار الكتب على «فرشات توزيع الصحف» في محطات القطار ومترو الانفاق. ظاهرة تبعت ظهور مكتبات مثل «تنمية» و«آفاق» و«أطياف» و«أقلام عربية»، وقبلها «ديوان» إلى جوار «مدبولي» و«الشروق» في السنوات الخمس الأخيرة، ما أحدث رواجاً في معدلات البيع انعكس بدوره على صناعة النشر التي شهدت معدلات نمو لافتة، كانت سابقة على التحولات التي أفرزتها «ثورة يناير 2011». غير أنّ تباطؤ معدلات النمو في بعض القطاعات الاقتصادية اثر سلباً على حركة بيع وشراء الكتب كما يشير وائل الملا من مكتبة «أطياف» الملاصقة لمقهى «زهرة البستان».

المعلومة ذاتها يؤكدها أحمد رشاد مسؤول التسويق في «الدار المصرية اللبنانية»، معتبراً أنّ رواج الكتب في بساطات الشوارع لا يعني شيئاً «لأنّ أغلبها مزور» ويستند الى قوة صفحات التواصل الاجتماعي التي تروج لكتب بعضها غير موجود أصلاً في الواقع، فهي «ذات حضور افتراضي». ما يشير اليه رشاد كشف عنه الكاتب سامح فايز في دراسة قدمها الأسبوع الماضي خلال «مؤتمر السياسات الثقافية والتنوع» الذي أقيم في مكتبة الاسكندرية. لفت رشاد إلى أنّ مواقع التواصل الاجتماعي أصبحت لاعباً أساسياً في تحديد اتجاهات سوق النشر بفضل تكريسها لظاهرة الكتاب الأكثر مبيعاً الذين قدموا من مسار غير تقليدي، ربما يفتقر لمعايير الفرز ويعتمد الربحية فقط كمعيار مقابل تجاهل معايير الفرز المرتبطة بالقيمة الأدبية والفنية. معيار مضلل في ظل افتقار المكتبات ودور النشر التي تعلن أرقام مبيعاتها لمعايير الصدقية والشفافية، ما يؤدي الى «تضليل القراء» وموزعي الكتب في المكتبات الكبرى داخل المجمعات التجارية، بل ومزوري الكتب الذين تتجه جهودهم أساساً لمواكبة «الكتاب الأكثر مبيعاً» أو الكتب التي حازت جوائز وتزوير أغلبها لمواكبة تغييرات سوق القراءة.
اليوم تبدو ظاهرة تزوير الكتب إحدى أكثر المشكلات التي تهدد صناعة النشر في مصر. قبل أشهر وفي سابقة أولى، تم ضبط كتب مزورة مرسلة إلى اليمن والسودان وليبيا وسوريا، وهي الأسواق التي خسرها سوق النشر العربي جراء الأحداث السياسية. ووفقاً لبيان صدر عن محمد رشاد الرئيس السابق لاتحاد الناشرين المصريين، فإن ظاهرة تزوير الكتب لم تقتصر على دور النشر المصرية، فقد تم ضبط 36 طرداً مرسلة إلى مخازن شركة شحن ضمت كتباً مزورة للناشرين اللبنانيين كـ «هاشيت أنطوان»، و«الفارابي»، و«الدار العربية للعلوم ناشرون».
مواقع التواصل الاجتماعي
أصبحت لاعباً أساسياً في تحديد اتجاهات سوق النشر

رغم اعتراف القراء بـ «جريمة تزوير الكتب»، الا أنها قد تمثل حلاً لبعض الراغبين في الاقتناء كما كشف الصحافي المصري محمد منصور في ما كتبه على صفحته على فايسبوك. ولفت الى أن ارتفاع اسعار الكتب في إحدى أكبر مكتبات القاهرة أقنعه بأن التعامل مع باعة الكتب المزورة هو الحل الأمثل «لاشباع رغبته المعرفية رغم انه لا يفضل ذلك».
ورغم تسرب الكتاب المزور إلى أيادي القراء في غياب قوانين رادعة، هناك إصرار من مكتبات كبرى على مكافحته كما تفعل مكتبة «تنمية» الأكثر ارتياداً من قبل نخب القراء الشابة. يؤكد خالد لطفي مدير المكتبة أنّه لجأ إلى وسائل غير تقليدية لمكافحة الكتاب المزور عبر إجراء مسابقات مع القراء وخصومات كبيرة على الكتب اللبنانية لكسر الركود الاقتصادي في عمليات البيع والشراء وحماية الكتب الاصلي.
ومع انتشار مواقع تحميل الكتب على الانترنت، عانى السوق المصري من الظاهرة. بعضهم اقترح توسع الدولة في تأسيس مكتبات عامة، وهو اقتراح بات ملحاً في ظل إحصائية اعلنها «مركز بصيرة» أخيراً يظهر أنّ عدد المكتبات العامة في مصر بلغ 331 عام 2013، وهو أقل من عدد مطاعم شركة «أمريكانا» البالغ 385! أما الدراسة التي أجرتها اليونيسكو العام الماضي، فقد أوضحت أن معدل قراءة الشخص العربي ربع صفحة في السنة! ووفقاً للخبراء، فإنّ إهمال البيع الإلكتروني للكتب هو أحد أهم أسباب تراجع معدلات القراءة في العالم العربي بسبب عدم وجود قوانين تنظم عملية البيع الإلكتروني كما هي الحال في الكثير من دول العالم. وبحسب خبراء، فإنّ اتساع ثقافة الكتاب الإلكتروني من شأنه حل مشكلتين رئيستين: الأولى هي أن توزيع دور النشر والمكتبات غالباً ما يتركز في العواصم والمدن الكبيرة، في حين أن الكتاب الإلكتروني يصل لأي شخص في أي مكان. أما الثانية، فتتعلق بارتفاع أسعار الكتب في حين أنّ أسعار الكتب الإلكترونية تكون أقل بنسبة تراوح بين 30% و40%.
من ناحية أخرى، اتسم سوق الكتاب واتجاهات النشر هذا العام بمجموعة سمات أبرزها «التردد». قللت دور مصرية من معدلات النشر تجنباً للمخاطرة. ووفقاً لأحمد رشاد، فإن هناك مؤشرات إلى تراجع «بيع الرواية» عكس ما كان قائماً في السنوات الخمس الأخيرة. في المقابل، يؤكد خالد لطفي إنّ الاحباط بلغ مداه مع الكتب السياسية التي لم تعد جاذبة بسبب إحباطات الوضع السياسي ربما. لكن الغلبة في السوق للكتاب المترجم أو المدعوم، فكتب الترجمة هي الأكثر رواجاً، الى جانب الكتب التي تدعمها الدولة. من ناحية أخرى، يبدو لافتاً أنّ السوق شهدت تراجعاً واضحاً لدور اتسم انتاجها بالغزارة مثل «الشروق» التي عانت أخيراً من هجرة كتابها الكبار إلى دور أخرى أو بسبب إشاعات سياسية تحاصر مالكها ابراهيم المعلم بين اتهامها بالافادة من نظام مبارك أو التقرب من الاخوان المسلمين. لكن الدار لا تزال تراهن على الكتاب الاكثر مبيعاً كأحمد خالد توفيق، ويوسف زيدان، وأحمد مراد. بالتوازي، تراجعت دور اتسم انتاجها بالطليعية مثل «ميريت» التي ادى انشغال مديرها محمد هاشم بالعمل السياسي إلى تراجع حضور الدار رغم أنّ هاشم يأمل أن يكون انتقاله إلى مقر جديد مع بداية العام «مؤشراً إلى عودة قوية». كذلك، ركزت «دار العين» نشاطها على الابداع الروائي العربي بسبب تقدمها في قوائم المنافسة على «بوكر» العربية في السنوات الأخيرة. وبتحرك بطيء ومحسوب تتقدم دور «الكرمة» و«كتب خان» و«روافد». لكن قلة رأس المال تحرم هذه الدور من إحداث «قفزة كبرى»، فالرهان على الحضور الموسمي المرتبط بمعرض الكتاب.