ما بين فترتي انطلاق الحركة التصحيحية التي سبقت تسلّمه رئاسة الجمهورية بأشهر ثلاثة (في 22 شباط 1971) وتاريخ الانتهاء من وضع الدستور في 13 آذار 1973، عكف الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد على وضع قوانين موسومة بطابع حزب البعث. لهذا، حصر الدستور السوري في مادّته الثامنة المثيرة للجدل، والمُندرجة تحت فصل المبادئ الأساسية، السلطة في سوريا بحزب البعث، على قاعدة أن «حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد في المجتمع والدولة ويقود جبهة وطنية تقدمية تعمل على توحيد طاقات جماهير الشعب ووضعها في خدمة أهداف الأمّة العربية». ولم يعدّل هذا الدستور في تاريخه غير ثلاث مواد: المادة السادسة (عُدّلت في 29 آذار 1980) وتقول «يبيّن القانون علَم الدولة وشعارها ونشيدها والأحكام الخاصة بكل منها». وفي 3 تموز 1971، عُدّلت الفقرة الثالثة من المادة 84 من الدستور الخاصة بتوقيت انتخاب الرئيس لتصبح: «يتم انتخاب الرئيس الجديد قبل انتهاء ولاية الرئيس القائم في مدة لا تقل عن شهر واحد ولا تزيد على ستة أشهر». وبعد وفاة الرئيس حافظ الأسد في حزيران 2000، وإفساحاً في المجال أمام تولّي نجله بشار (الرئيس الحالي) للرئاسة، عُدّلت المادة 83 من الدستور لتصبح: «يشترط في من يرشح لرئاسة الجمهورية أن يكون عربياً سورياً متمتّعاً بحقوقه المدنية والسياسية متمّاً الرابعة والثلاثين عاماً من عمره».
وبناءً على استفتاء شعبي أجري في 12 آذار 1973، حصرت المادة الثامنة القيادة بحزب البعث العربي الاشتراكي وسمحت لأحزاب معيّنة، يوافق عليها حزب البعث، بالعمل في الحياة السياسية في إطار «الجبهة الوطنية التقدمية» تحت سقف تحدّده السلطة البعثية.
أمّا الجبهة الوطنية التقدمية، التي تأسست في 7 آذار 1972، فتتألّف من 7 أحزاب تمارس السياسة بذهنية حزب البعث وتعطي النظام صيغة تجميلية لمشهد التنوع السياسي والحزبي المُفترض. هذه الأحزاب هي: حزب البعث العربي الاشتراكي والحزب الشيوعي السوري (بجناحيه «وصال بكداش» و«يوسف فيصل») والاتحاد الاشتراكي العربي وحزب الوحدويين الاشتراكيين وحركة الاشتراكيين العرب والحزب الوحدوي الاشتراكي الديموقراطي والاتحاد العربي الديموقراطي. ومنذ أواخر عام 2001، يشارك الحزب السوري القومي الاجتماعي في اجتماعات الجبهة بصفة مراقب.
وبموجب الفقرة الأخيرة من المادة (3) من نظامها الأساسي، هناك إمكانية لانضمام أطراف أو عناصر أخرى إلى الجبهة، مثل الاتحاد العام لنقابات العمال والاتحاد العام للفلاحين.
وبدا مسوّغ تأسيس هذه الجبهة، كما ورد في بيان القيادة القطرية المؤقتة في 16 تشرين الثاني 1970، أنه «ينبغي حشد الطاقات التقدمية، والشعبية، ووضعها في خدمة المعركة، وذلك من خلال تطوير العلاقات باتجاه جبهة تقدمية بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي».
وتحقق هذا الطموح في 7 آذار 1972، بالتوقيع على ميثاق للجبهة. وأدّت الجبهة دوراً في تبهير صورة التعدديّة الحزبيّة في سوريا، إضافة الى إعطاء القرارات السورية المهمة التي يصدرها أركان النظام شرعية سياسية توحي بالإجماع حولها.
ولكي يبقى حزب البعث هو الأقوى على الساحة السياسية، عمد الى إضعاف الأحزاب الموجودة في الجبهة من خلال مغازلة شخصيات أو تيارات معيّنة وعزل أخرى، علماً بأن حزب «البعث» نفسه انشقّ تاريخياً عن نصفه العراقي، ثم انشقّ عنه ابراهيم ماخوس وأسس حزب البعث العربي الاشتراكي الديموقراطي وهو خارج الجبهة أيضاً.
ولعل أهمّ الانشقاقات التي تعرّضت لها أحزاب الجبهة جاءت من الحزب الشيوعي الذي انقسم الى تيارات متفرقة؛ بات الحزب الموجود داخل الجبهة جناحين (جناح وصال بكداش وجناح يوسف فيصل)، فيما انضم جناح رياض الترك الى المعارضة غير المعترف بها من السلطة.
أمّا الاتحاد العربي الاشتراكي فقد عرف آخر انقساماته عام 1973، حين خرج جمال الأتاسي بجناحه المعارض من الجبهة وبقي فوزي الكيالي فيها، وكلاهما احتفظ بذات الاسم.
بدورها، حركة الاشتراكيين العرب، انقسمت إلى جناحين، أحدهما عضو في الجبهة الوطنية كان يرأسه عبد الغني قنوت حتى وفاته، والثاني في المعارضة ضمن التجمع الوطني الديموقراطي ويرأسه عبد الغني عياش.
وعلى المنوال نفسه سار الحزب الوحدوي الاشتراكي الديموقراطي عام 1974، الذي انضمّ إلى الجبهة منذ نهاية كانون الأول 1988. كان يقوده أمينه العام أحمد الأسعد منذ تأسيسه حتى وفاته في 9 آذار 2001. ثم اندلع الصراع على أشده بين فراس الأسعد نجل زعيم الحزب وبين العديد من أعضاء اللجنة المركزية والمكتب السياسي. وانتخب فراس أميناً عاماً للحزب الممثل في الجبهة.
في أي حال، لم تكن أحزاب الجبهة قياساً بحزب البعث، أحزاباً جماهيرية قادرة على الحشد أو إعلان نشاطات وتحركات خاصة بها بعيداً عن التنسيق مع جهاز الاستخبارات.
واللافت أن قيادات هذه الجبهة، الذين أصبحوا كباراً في السن أو من ضمن صفوف الحرس القديم للنظام وحافظي أدبياته في القومية والاشتراكية والوحدة، لم يقدّموا يوماً أي اقتراحات تركت بصماتها على المشهد السياسي السوري إلّا من قبيل مباركة قرارات البعث.