صحيح أن ثورتي البحرين واليمن والاضطرابات في السعودية وسلطنة عُمان لا يمكن فصلها عما جرى في تونس ومصر وما يجري حالياً في ليبيا. وصحيح أيضاً أنها كلها تندرج في السياقات نفسها من حيث إنها تعبّر عن مظالم تاريخية وتوق إلى الكرامة ولقمة العيش والحرية، وتوّجت صراع نفوذ على المنطقة انتهى إلى منتصر ومهزوم. إلا أن ما يحصل في الخليج يبدو واضحاً أن له منطقه الخاص وقواعده وقوانينه الناظمة، التي تتميّز عن باقي الثورات العربية.ولعل المعادلة الأساس التي تتحكم بالحراك الخليجي، هذه المساكنة القلقة بين الولايات المتحدة وإيران في منطقة لا تبدو فيها المغالبة سهلة المنال، وإلا لحُسمت الأمور لمصلحة هذا الفريق أو ذاك. هو الأمن الإقليمي للخليج على المحك، والسؤال الذي يفترض بهذه الثورات أن تجيب عنه هو ما إذا كانت إيران ستنجح في إخراج الأسطول الخامس من المنطقة، كما فعلت لساعات خلال الاضطرابات البحرينية، أم تتمكن الولايات المتحدة من أن تستعيد سيطرتها وهيمنتها على الخليج كله.
وإذا ما نحّينا جانباً المطالب الداخلية لفئات مقهورة في أكثر من دولة خليجية، يمكن تلخيص الصراع الخليجي بين تيارين من الدول: الأول تمثله السعودية ومعها البحرين والإمارات، ويقف في مواجهة إيران، ويريد وضع حد لأي نفوذ لها في منطقة مجلس التعاون الخليجي. وهناك تيار آخر، تتزعمه سلطنة عمان ومعها الكويت وقطر، لا ينظر إلى الجمهورية الإسلامية بقلق، بل يتعامل معها كدولة طبيعية في المنطقة، بل إن هذين التيارين يمكن أن تجد لهما امتدادات داخل كل دولة، مثل السعودية حيث يتزعم الملك عبد الله التيار الراغب في مصالحة مع إيران وسوريا، فيما يتزعم الأمير نايف التيار السديري الذي يرفض رفضاً مطلقاً أي تسوية من نوع كهذا. وبين هؤلاء وأولئك، هناك الولايات المتحدة التي تسعى إلى إعادة ترتيب البيت الخليجي الداخلي، وإيران التي تسعى إلى تكريس نفسها لاعباً أساسياً في المعادلة، هناك حاجة ماسة إليه ولا يمكن تجاوزه. لا يعني هذا طبعاً التبخيس من قيمة الحراك الجماهيري الذي يناضل من أجل مطالب محقة، ولا نيّة طبعاً في تصنيف هذه الحركات وفق الاصطفافات الإقليمية. المقصود فقط الإشارة إلى أن هذا الحراك الشعبي يسير في خط متوازٍ مع صراع إقليمي يتأثر أحدهما بالآخر، سلباً أو إيجاباً. والمقصود أيضاً عدم القدرة على تفسير الأفعال وردود الأفعال في حالة معينة بها فقط، بل تأكيد ترابط كل ما يجري في الدول الخليجية بعضه ببعض.
ولعل أحدث التطورات الخليجية وأهمها، ما يجري في اليمن، حيث يبدو واضحاً أن السعودية تحاول، ومعها واشنطن، الحؤول دون خسارة هيمنتها على هذا البلد عبر التضحية بعلي عبد الله صالح لمصلحة شخصية أخرى، تبقى كالرئيس الحالي تحت العباءة السعودية – الأميركية. مرحلة مخاض انتقالي قد تنتهي إلى تحقيق الرغبات السعودية التي لا شك في أن القلق ينخرها، هي التي أدركت، بعد تجربتي تونس ومصر، أنه لا ضوابط ولا ضمانات لمآلات الحراك الشعبي. غير أن الحدث اليمني، رغم لحظيته، لا يمكنه أن يحجب الحدث البحريني، حيث تؤكد مصادر خليجية معنية بإعادة المفاوضات إلى سكتها في الخليج أن «الأمور لا تزال في بداياتها»، مشيرة إلى أن «الاتجاه نحو مزيد من التعقيد بعد خسارة المملكة السعودية سياسياً ومعنوياً». وتضيف أن «الوضع في البحرين إلى مزيد من الاضطرابات. هناك صدام بين تيارين: الملك يطالب ولي العهد بتفعيل الحوار ويعطيه المزيد من الصلاحيات لإيجاد تسوية مع المعارضة التي ترفض التفاوض في ظل نزف الدم وتطلب مبادرة قبل التحاور. المعارضة أصبحت أكثر تشدداً ولن تقبل بالأسقف السابقة».
وتكشف هذه المصادر أن «مبادرة ملك السعودية عبد الله نحو دمشق، ومنها إلى طهران، تصطدم بضغوط أميركية بلغت الكويت التي أجبرت على المشاركة بحرياً في قوات درع الجزيرة الموجودة في البحرين»، مشيرة إلى أن «أمير الكويت نفسه يبرّر هذه المشاركة بضغوط خارجية ويؤكد أنه كان حريصاً على ضمان عدم احتكاك الوحدة الكويتية بالناس».
وتؤكد المصادر نفسها أن «كلام ملك البحرين مساء الأحد على إيران وحزب الله ليس سوى للاستهلاك الخارجي. يريد أن يوحي بأن القضية صراع مع إيران وليست قصة شعب بحريني مظلوم ويطالب بحقوق».

معسكران خليجيان

وتقول مصادر خليجية عليمة بما يجري داخل القصور المغلقة إن «هناك انزعاجاً أميركياً بالأساس، وسعودياً تالياً، وخاصة لدى الجناح السديري، من سلطنة عمان ومن قطر، وبصورة أقل من الكويت. والسؤال الأساسي الذي يطرحه الأميركيون والسعوديون: لماذا تتعامل حكومات هذه الدول مع إيران على أنها دولة طبيعية، جار طبيعي لا يثير القلق؟».
وتضيف هذه المصادر: «إن الكويتيين يحفظون لإيران نسيانها دعمهم لصدام حسين في الحرب العراقية – الإيرانية ومسارعة طهران لجيرتهم يوم غزا العراق الكويت. لقد عمل الإيرانيون على إطفاء آبار النفط الكويتية التي فجرتها القوات العراقية، وأحسنوا ضيافة المهجرين الكويتيين الذين لجأو إلى إيران ومنعوا تدفق عناصر القاعدة إلى الكويت، وذلك رغم كل المغريات التي قدّمها لهم صدام قبل دخوله الإمارة الخليجية. رأى الكويتيون أن إيران لم تستغل فرصة الانتقام، بل بالعكس، مدّت يد التعاون، وأنها ستبقى جاراً للكويت إلى أبد الآبدين». وتضيف أن «حكاية العمانيين باتت معروفة، علاقات صداقة تمتد لأولى أيام الثورة الإيرانية، وجهد عماني لأداء الدور الذي كانت تؤديه دبي سابقاً كملجأ آمن ووكيل تجاري لإيران، فضلاً عن المرفأ العملاق الذي تعمل السلطنة على إنشائه لاستقبال البضائع ونقلها إلى إيران» (راجع «الأخبار» العدد ١٣١٥ السبت ١٥ كانون الثاني ٢٠١١). وتتابع: «يبقى القطريون، وحكاية الدوحة أيضاً معروفة في محاولتها التقرب من الجميع وممارسة سياسة الحياد الإيجابي والوقوف على مسافة واحدة من كل الأطراف، ما يؤهلها لأداء دور في المنطقة وحماية نفسها في الآن نفسه. باختصار، لا تخرج علاقة قطر بإيران عن السياسة العامة التي تعتمدها قطر في المنطقة». وتتابع «باختصار، فإن هذا الثلاثي يبدو واضحاً أنه يثير انزعاجاً سعودياً. في النهاية، حال هذا الثلاثي دون قدرة الرياض على تأليف كتلة إقليمية خليجية متجانسة على الطريقة التي تريدها».

من السلطنة إلى المملكة

وتقول هذه المصادر إنه «بناءً على ما حصل في الثورات العربية، وسقوط حلفاء كبار للنظام السعودي، والحديث يتركز على نظام حسني مبارك على وجه الخصوص، رغم الضغوط السعودية على كل المعنيين الإقليميين والدوليين للحفاظ عليه، رأت السعودية في التظاهرات التي خرجت في البحرين، خطراً حوثياً ثانياً. رأت أنها هي نفسها المستهدفة لا الإصلاحات. بل أكثر من ذلك؛ رأت في ما يجري في البحرين رداً إيرانياً على ما فعله الإماراتيون في سلطنة عمان. وفي ظل صراع أجنحة داخل السعودية ووضع سُني مضطرب ومنطقة شرقية شيعية تتحفز للتحرك، رأت الرياض أن أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم».
وكانت الإمارات، في محاولة لتأديب سلطنة عمان على تعاونها مع إيران، وبدعم وتحريض سعوديين، قد زرعت داخل السلطنة شبكة تجسّس لتقويض نظام قابوس بن سعيد. العملية كلها كانت بقيادة حاكم دبي، محمد بن راشد آل مكتوم وبرعاية ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، الذي عمل أيضاً على طرد آلاف مؤلفة من الجنود العاملين في الجيش الإماراتي من حاملي الجنسية العمانية. خيّرهم، بحجة ضمان الولاء، بين الجنسية العمانية والخدمة في جيشه، وطرد من رفض التخلي عن جنسيته إلى سلطنة عمان، ما زاد عدد العاطلين من العمل في السلطنة كثيراً ودفعة واحدة، وسبّب مشكلة لقابوس. ومعظم الذين تظاهروا أخيراً في صحار كانوا من المطرودين من الإمارات».
ومعروف أن النظام العماني قائم على تحالف ركنين أساسيين من المجتمع: الشيعة المعروفين باسم «اللواتية»، الذين يسيطرون على الاقتصاد وعالم الأعمال والاستثمارات. والإباضية، وهم فئة من المسلمين ينتمي إليهم قابوس، ويسيطرون على الأمن والعسكر. وتقول المصادر إن «مؤامرة محمد بن راشد، ومعها تحريك الإماراتيين والسعوديين والأميركيين للتظاهرات والاحتجاجات، كانت تستهدف ضرب التحالف بين اللواتية والإباضية الملتف حول السلطان الذي اضطر إلى تغيير ١٢ وزيراً أمنياً واقتصادياً، وللمرة الأولى تغيير رئيس الديوان ووزير البلاط كي يستعيد السيطرة على البلاد».

وساطة كويتية مع عمان

وكانت الكويت، التي تخشى الكبار الثلاثة الذين يحيطون بها (السعودية والعراق وإيران) وتسعى إلى إقامة علاقات متوازنة مع أضلاعه، قد انزعجت كثيراً لدى تبلغها المؤامرة الإماراتية حيال سلطنة عمان. أدركت أن هناك محاولة لضرب الفريق غير المعادي لإيران داخل دول مجلس التعاون. فهمت أن السعودية والإمارات والبحرين قد تكتلت لتحقيق هذا الهدف. شعرت بأنه إذا نجحت المؤامرة مع سلطنة عمان، فستبقى وحيدة في هذه السياسة وتضطر إما للارتماء في حضن السعودية، أو مواجهة المصير العماني. كان موقف السلطة يمثل غطاءً للسياسة الكويتية.
بناءً على ذلك، سارعت الكويت إلى وساطة بين الإمارات وسلطنة عمان، قادها أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح الذي اضطر ذات يوم إلى الانتقال بين دبي ومسقط أربع مرات في النهار نفسه، أي إنه ركب الطائرة ثماني مرات حتى استطاع أن يقنع قابوس باستقبال محمد بن راشد الذي سبق أن طلب موعدين من سلطان عمان بلا جدوى، علماً بأن محمد بن زايد، في خلال قمة أبو ظبي الخليجية، كان قد طلب هو أيضاً لقاء نائب رئيس الوزراء العماني فهد بن محمود آل سعيد الذي رفض استقباله.

... وأخرى في البحرين

لما اشتمّت الكويت أن المشكلة البحرينية تكبر يوماً بعد يوم، ومع إدراكها للتداخلات الإقليمية ونظرة السعودية لما يجري، إضافة إلى خبايا الصراعات الخليجية – الخليجية، سارعت إلى التوسط بين العائلة المالكة البحرينية، وخاصة ولي العهد الأمير سلمان بن حمد آل خليفة، وبين المعارضة. وقتها، استدعى أمير الكويت الشيخ حسين معتوق، وهو شخصية شيعية كويتية بارزة، وكلفه القيام بوساطة كهذه. وساطة تزامنت مع الجهود الضخمة التي بذلها المرجع علي السيستاني (راجع «الأخبار» العدد ١٣٦٦ الجمعة ١٨ آذار ٢٠١١).
وتقول مصادر خليجية تابعت الوساطة الكويتية «انتقل الشيخ معتوق إلى البحرين والتقى ولي العهد وقادة المعارضة، وكادت وساطته تنجح، إلى أن دخل رئيس الوزراء خليفة بن سلمان آل خليفة على الخط بضغط من (نائب وزيرة الخارجية الأميركية جيفري) فيلتمان». وتضيف: «فاقم الوضع قرار سعودي بالانتهاء من المشكلة البحرينية. اعتمدوا مبدأ تكبير المشكلة لتصغر. على الأقل كان هذا رأي الجناح السديري الذي أقنع الملك عبد الله، كي لا نقول أجبره، على الموافقة على دخول القوات السعودية إلى البحرين». وتوضح أن «الدليل على ذلك الرسالة التي بعث بها الملك إلى الرئيس السوري بشار الأسد يطلب فيها عودة الأمور إلى مسار ما قبل التفجير. هو يريد الانتهاء من الأزمة. مقتنع بأنه في المرحلة الحالية لا يمكن أي شيء في المنطقة أن يسير من دون سوريا وإيران. وهو لذلك طلب وساطة سوريا لإقناع إيران بإعادة الأمور إلى مساء ما قبل الانفجار».
الطريف في الوساطة الكويتية، على ما يفيد بعض الظرفاء، «هو ما كان يحصل داخل الكويت نفسها، وتحديداً داخل البرلمان. في البدء، هدّد النواب الشيعة بمساءلة الحكومة وإسقاطها في حال انضمامها إلى قوات درع الجزيرة في البحرين. وقبل يومين قدم نائبان كويتيان، بينهم وليد الطباطبائي، مذكرة استجواب إلى الحكومة يسألانها فيها عن الأسباب التي منعتهما من إدخال وحدة عسكرية إلى البحرين».
وتقول هذه المصادر إن «قطر كان يمكن أن تشارك، لولا رسالتان إيرانية وتركية أوضحتا لها أنها لعبة سعودية أميركية لا شأن لها فيها، مع تلويح بعواقب محتملة، وهكذا بقي السعوديون والإماراتيون في الميدان».



محنّك وخبيث

سياسي محنّك يختصر الوضع الخليجي بما يأتي: «الكل يصعّد، في اليمن والبحرين، السعودية وإيران، السلطة والمعارضة، والهدف كسب امتيازات في أي تسوية مقبلة، إن حصلت».
خبيث من محور الاعتدال يسارع إلى إعلان النصر السعودي: «انظروا كيف تقهقرت المعارضة البحرينية وكيف تستوعَب المعارضة اليمنية». خبيث آخر موالٍ لإيران يرد: «الحسم لا يزال مبكراً، وإن كانت الخلاصة الأولى أن الإيراني كرّس نفسه لاعباً خليجياً بطلب من ملك السعودية وفرض ترابط وضع الشيعة في دول الخليج جميعاً، وطرد الأسطول الخامس من البحرين، ولو مؤقتاً».
متبرّع معلومات يضيف أن السوريين لديهم علاقات تاريخية مع قادة المعارضة البحرينية الذين كانوا يقيمون في سوريا، حيث كانت ترعاهم قيادة حزب البعث، وخاصة الجبهة الشعبية لتحرير البحرين وجبهة التحرير البحرينية. ويوضح قائلاً إن المعارضة البحرينية، وعمرها يتجاوز أربعة عقود، كانت طول عمرها معارضة يسارية وكانت لها المطالب نفسها، ولم تصبح إسلامية إلا بعد سنوات على اندلاع الثورة الإسلامية في إيران.