انتظر الغربيون شهراً كاملاً قبل أن يتخذوا قرار التدخل العسكري في ليبيا، كانوا خلال هذه المدة يتقدمون خطوة الى الأمام وخطوتين الى الوراء. ترددوا لأنهم لم يستطيعوا فهم الموقف على الأرض. للوهلة الأولى كانوا يظنون أن مسار الانتفاضة الليبية لن يكون بعيداً عما حصل في تونس ومصر، واعتقدوا أن العقيد معمر القذافي سوف يحاول استخدام القوة، لكن الأمر لن يطول أكثر من أيام معدودة، وينتهي بالفشل في كسر شوكة الثورة الشعبية، وبالتالي رحيله.
ولذا انطلت على الكثيرين الأخبار التي تحدثت عن مغادرة القذافي في اتجاه فنزويلا، وزاد من جدية ذلك الوساطة التي تقدم بها الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز من أجل التوصل الى حل وسط بين الرئيس الليبي ومعارضيه. ولعل من المفيد بمكان التذكير بأن القذافي هو الذي قطع الطريق على مساعي صديقه تشافيز، وظهر نجله سيف الإسلام ليعلن رفض المبادرة، وقال في الثالث من الشهر الجاري إنه لا داعي للوساطة، لأن الليبيين أقدر على حل مشاكلهم بأنفسهم، وعلى حد تعبيره فإن تشافيز لا يفهم الوضع في ليبيا، فهي واقعة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بينما فنزويلا في أميركا الوسطى.
في المقابل، أعلن المجلس الوطني الانتقالي الذي يمثل واجهة للثورة رفضه مبدأ الوساطة مع القذافي. وقال رئيس المجلس مصطفى عبد الجليل إن مبدأ الحوار مع العقيد القذافي مرفوض تماماً وإن أحداً لم يتصل بهم بشأن المبادرة الفنزويلية. من جهتها، رفضت كل من واشنطن وباريس المبادرة الفنزويلية. ورأى وزير الخارجية الفرنسي آلان جوبيه أن «أي وساطة تجعل القذافي يخلف نفسه غير مرحب بها»، بينما قال المتحدث باسم الخارجية الأميركية فيليب كراولي إن القذافي لا يحتاج إلى أن يقال له «ماذا يجب أن يفعل».
تلخص جملة الناطق باسم الخارجية الأميركية جانباً رئيسياً من المسار الذي سلكته الأحداث، إذ تبين أن القذافي هو الوحيد الذي كان يعرف ماذا يفعل، بينما ساد الارتباك على الجبهة المقابلة، وسمح ذلك للعقيد بأن يرتب وضعه الميداني، ويمسك زمام المبادرة العسكرية. وبسرعة كبيرة، استعاد المدن التي سقطت بأيدي الثوار خلال الأيام الأولى في الغرب والشرق، مثل الزاوية والبريقة وأجدابيا، وتبين ميدانياً أنه يمتلك أوراق قوة عسكرية لم تكن ظاهرة في الأسبوع الأول، حتى إن العديد من الأوساط الدولية شككت بأن القذافي يقاتل منفرداً، وساد الاعتقاد بأنه قد يكون حصل على دعم عسكري نوعي من بعض البلدان، ووجهت أصابع اتهام إلى كل من الجزائر وسوريا. لكن طبيعة الهجمات التي شنتها قواته تسقط هذا الاحتمال، وتذهب الى واقع آخر وهو أن القذافي، ربما، استفاد من عمقه القبلي في الدرجة الأولى، بعدما استوعب صدمة الحدث.
التقدم العسكري الذي حققه العقيد وضع الغربيين أمام ثلاثة خيارات. الأول هو أن يتركوه يكمل حربه حتى النهاية، ويسقط مدينة بنغازي القلعة الأخيرة لمعارضيه، وهذا الخيار ذو عواقب خطيرة، أقلها ارتكاب مجازر في مدينة مكتظة بالسكان. ولا سيما أن أنصار القذافي يتقدمون على طريق استراتيجية الأرض المحروقة، وتبيّن من خلال المشاهد التي نقلتها عدسات التلفزيونات في المدن التي سيطرت عليها كتائب القذافي أن القصف لم يوفر المدنيين ولا المنشآت الاقتصادية، وكانت الخسائر أقل في صفوف المقاتلين المعارضين، الذين كانوا ينسحبون كلما وجدوا أنهم لا يستطيعون الصمود. والخيار الثاني أن يتوصل الغربيون مع القذافي إلى حل وسط يوقف بموجبه العقيد القتال ويصدر عفواً عاماً، وبدرت مساعي من هذا القبيل معطوفة على وساطة تشافيز، قام بها الأتراك، لكن الغربيين أدركوا أن ثمن هذا الخيار هو أن يعترفوا بانتصار العقيد، وهذا أمر تترتب عليه عواقب لاحقة، منها أنه سيعيد النظر بعلاقاته مع الغرب، على صعيد العقود الاقتصادية، كما سيتراجع عن التزاماته السابقة حيال الإرهاب ومكافحة الهجرة.
أما الخيار الثالث فهو الحرب، لذا تحرك الغربيون في اللحظة الأخيرة، وذهبوا الى تشريع التدخل من خلال مجلس الأمن الدولي، وجرى تكوين تحالف غربي عربي، وفر غطاء للعمليات العسكرية التي انطلقت مساء أول من أمس، وكانت الطائرات العسكرية الفرنسية هي التي بادرت الى توجيه الضربة الأولى.
تحالف اليوم ينمّ عن مفارقة كبيرة، فهو مختلف عن التحالفات الكبرى التي حصلت في السنوات الأخيرة، وتحديداً ضد العراق ويوغوسلافيا. ففي سنة 1991 تمكن جورج بوش الأب من تأمين حشد دولي واسع بقرار من مجلس الأمن، وشاركت فيه أطراف واسعة بما فيها جيوش الدول العربية، لكنه وقف عند إخراج القوات العراقية من الكويت، ولم يدخل بغداد وترك الرئيس العراقي صدام حسين محاصراً في بغداد ومحيطها، وبالتالي لم تسجل واشنطن على نفسها سابقة التدخل في شؤون بلد مستقل. والتحالف الثاني هو الذي حصل سنة 1999 ضد الرئيس اليوغوسلافي سلوبودان ميلوسوفيتش، وجرى من حوله توافق غربي، لكن روسيا والصين وقفتا خارجه، وتم بعيداً عن مجلس الأمن وجرى إخراجه في الإطار الأطلسي، وظل إشكالياً لجهة القانون الدولي، وهو في جزء منه يشبه مبررات التدخل في ليبيا، من زاوية إيقاف حرب التطهير التي شنها الصرب ضد أهل كوسوفو.
وفي سنة 2003، لم تنجح واشنطن في تأمين إخراج تحت مظلة الأمم المتحدة لغزو العراق وإسقاط صدام، وأفشل مسعاها التحالف الفرنسي الروسي الألماني، ولذا بقيت لدى الرئيس الأميركي السابق جورج بوش غصة كبيرة، لأنه ذهب الى خيار الحرب من دون غطاء دولي، وبعيداً عن فرنسا ذات الثقل والتأثير في مناسبات من هذا القبيل.
في الحالة الليبية، بدت فرنسا هي المتحمسة والولايات المتحدة هي المترددة، بينما سارت لندن الى جانب باريس، وهي التي كانت تقوم بدور التابع لواشنطن. وبين تردد الإدارة الأميركية وحماسة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي للحرب، تظل هناك منطقة رمادية مفتوحة على احتمالات شتى.
تردد واشنطن حكمه اعتباران. الأول هو خشية إدارة أوباما من العواقب التي قد تترتب على التدخل العسكري، وبرزت تقديرات أميركية تفيد بأن هزيمة القذافي ليست بالأمر السهل، بل إن بعض الساسة لفتوا انتباه الرئيس باراك أوباما إلى أنه يكفي الولايات المتحدة تورطان في العراق وأفغانستان. والاعتبار الثاني هو أن ليبيا لم تكن مصدر إزعاج للولايات المتحدة، بل إن العقيد القذافي برهن عن انضباط شديد منذ أن اتّعظ بنهاية صدام حسين وتخلى سنة 2003 عن برنامجه النووي، وسلّم كل ما بحوزته من ملفات تتعلق بالإرهاب، ودخل في شراكة مع الغرب في الحرب على الإرهاب ومكافحة الهجرة غير الشرعية، وفتح بلاده أمام الشركات النفطية الغربية. ويضاف الى هذا أن حاجة أميركا إلى النفط الليبي غير واردة في المدى المنظور، عدا عن أن السعودية بادرت الى سد النقص في الأسواق العالمية من جراء تراجع صادرات النفط الليبي.
حماسة ساركوزي لها أكثر من مبرر. أهمها أن الرئيس الفرنسي يعتقد أن النصر على العقيد القذافي أمر متاح، وهذا سوف يرفع من رصيده الداخلي في الشارع الفرنسي، ويساعده على بدء حملته للانتخابات الرئاسية المقررة في أيار من السنة المقبلة، وهو يمسك بيده ورقة إطاحة ديكتاتور يذبح شعبه، في بلد يعوم فوق احتياطي خيالي من الثروات التي سيكون للشركات الفرنسية منها النصيب الأوفر، في وقت تعاني فيه فرنسا من أزمة اقتصادية حادة، وفشل في الحصول على عقود اقتصادية مجزية في الخليج، وخصوصاً في العراق.
ما كان لحماسة ساركوزي أن تقود وحدها إلى الحرب، لو لم يقدم القذافي المبرر الشرعي، من خلال مراوغة قرار مجلس الأمن الرقم 1973، الخاص بحماية المدنيين. لقد أحرج الغربيين بقبوله القرار، لكنه شرّع أمامهم أبواب العمل العسكري حين واصل هجومه أول من أمس على مدينة بنغازي.



إسرائيل: أيام القذّافي معدودة

ذكرت مصادر استخبارية إسرائيلية أن أيام الزعيم الليبي، معمر القذافي (الصورة)، أصبحت معدودة، مشيرة الى أن الـ72 ساعة المقبلة حاسمة في تقرير مصير القذافي، في ظل ضربات متوقعة ستعمل على تشتيت القوات الليبية الموالية للنظام، وستجعلها في موازاة قوات الثوار الليبيين.
وذكر موقع «تيك ديبكا»، المقرب من الاستخبارات العسكرية الاسرائيلية، أن الضربات الصاروخية دمّرت بالكامل أجهزة ومعدات اشتراها العقيد القذافي قبل شهر من الآن، تشمل أنظمة دفاع جوي ورادرات متقدمة تم التعاقد عليها مسبقاً مع دول أوروبية. وتوقعت المصادر إقدام العقيد القذافي على إحراق حقول النفط الليبي في أقرب فرصة ممكنة، مشيرة الى أن التصعيد ضد النظام الليبي سيأخذ بعداً جديداً مفاجئاً يعمل على التعجيل بسقوطه.
(سما)