هل هي صدفة؟ الجيش والكنيسة والإخوان والسلفيون، أي مؤسّسات الوصاية، وقبلهم الحزب الوطني، يدفعون إلى أن يقول الشعب المصري «نعم» في استفتاء التعديلات الدستوريّة غداً. وكذلك دعاة الوصاية، فالمستشار طارق البشري، مثلاً، قال في مقال منشور في صحيفة «الشروق»، إن من يرفض تعديلاته يكون «خائفاً من الديموقراطية». وفهمي هويدي، في الصحيفة نفسها، عدّ أنّ «لا»، تعمل لخدمة مصالح أميركا وإسرائيل.
كيف؟ ولماذا؟ ومن أين أتى بهذه السهولة بالاتهام والتخوين؟ هي عقلية الوصاية، تعمل في مناخ الاستقطاب فقط، حيث الوصيّ يحشد جمهوره، ويشحن المنجذبين إليه. الكتابة مثل إلقاء المواعظ، تبدو حكمة نهائية ومعرفة لا رادّ لها، صاحبها يجلس على مقعد المعرفة العالي، والقرّاء جمهور يستمع ويهزّ رأسه معجباً بمعجزة شيخ المعرفة.
عقلية قديمة يهمّها الفرز على أساس الفرَق المتصارعة. هم نبلاء يتصورون حرباً مع العلمانيين، ويشعرون بضعف وقوّة في آن واحد. ضعف لأن ثورة ٢٥ يناير صنعها مناخ أقرب إلى المدينة بانفتاحها الكبير على التعدد وحرية الفرد، بينما الوصاية في عمقها ريفية وإن عاشت في المدن.
أمّا القوّة فتمكّن الجيش من السلطة بجاذبيته الشعبية، في إعادة إنتاج لمناخ يفرز أوصياء، وأدلّة طرق، لا سياسيين وقادة ينقلون الثورة إلى مرحلتها الجديدة. الثورة قبلت بالمغامرة، واحتاجت إلى القوة. المغامرة في فتح الميدان أمام تعدّد سياسي وديني واجتماعي كامل الأوصاف، والقوّة كانت الجيش الذي حسم قراره ضد السير وراء شهوة مبارك وعائلته في الاحتفاظ بالسلطة لأسباب ستكشف عنها أيام مقبلة. لكن المكشوف منها أنه شعور بأن شهوة مبارك تدفع البلاد إلى الخطر، وأنّ طاعة أوامره هو وعائلته ستقود الى انشقاق بين ضبّاط الرتب المختلفة.
الجيش اختار الانحياز للثورة، ربما لرغبة أخلاقية في دخول التاريخ بنقل مصر إلى النظام الديموقراطي، أو لمصلحة في الحفاظ على موقع المؤسسة في التركيبة المقبلة، وربما للاثنين معاً.
لكن الجيش ليس مغامراً، وهذا ما جعله يبحث عن عوامل الاستقرار، لا التغيير. وهذه مفارقة أربكت الجميع: كيف يكون التغيير بعناصر الاستقرار؟ وبمعنى آخر كيف تحقق الثورة أهدافها عبر أوعية النظام السابق؟ هنا وجد عناصر الوصاية طريقهم، يرشّحهم نبلهم، وسمعتهم البعيدة عن جرائم النظام، وربما قدرتهم على فرض وصاية ناعمة على جماهير تتيقظ روحهم الثورة في الاحتفالات، لكنهم يخافون من المغامرة، إنهم القوى المحافظة، أو الماء الذي يطفئ الثورات.
وبهذا الماء استعاد الأوصياء حيويتهم، هم وشطّار الثورة المضادة. والتقى ديناصورات الحزب الوطني وفلوله بالعقلية القديمة من الإخوان المسلمين والسلفيين ودعاة الخوف من المدنية.
لقاء مربك، أعاد لغة قديمة، مستهلكة، إلى المناخ السياسي، لغة تريد صوتاً واحداً، وشعباً يقف صفاً واحداً، لا أفراداً يلتقون في ميدان. عودة اللغة القديمة تجرّ خلفها قوى تعودت الحياة تحت السطوة، وتشعر في الميدان بانعدام جاذبية، وتبحث عن ثقل يكون عادة في العناوين النبيلة: «دافع عن إسلامك وقل نعم».
هذا ما كتبه السلفيون في بيان يوزّع في الأحياء الشعبية والفقيرة. النداء موجّه إلى «الأمة الإسلامية»، كيان افتراضي هنا يُشعر بالأمان كل القلقين من مغامرة الثورة، كيان يدغدغ أسلمة المشاعر ويربطها بشبكة المؤمنين، أمميّة إسلامية متخيّلة، يطالبها البيان بالتكتل ضد أعداء الإسلام: «أعداؤكم يتربّصون بكم ويريدون أن يقضوا عليكم بالقضاء على دينكم وشرع ربكم»، وذلك بـ«إلغاء الدستور لإسقاط المادة الثانية منه أو لوضع دستور جديد يتعارض مع دين الله عزّ وجلّ».
شحن عنيف، يهدف إلى صفّ الجموع خلف «نعم» تواجه «الأعداء». هذه هي النسخة الشعبوية من خطاب جماعة الإخوان الذي وزع في كل مكان، تحت عتبات البيوت وفي محطّات البنزين يربط بين «نعم» والإيمان، وفي أحياء أكثر شعبية وفقراً، بينها وبين «الواجب الشرعي».
الخطاب يتحلّى برصانة أكثر عندما يصل إلى كتّاب ومفكّرين (البشري وهويدي) يبحثون عن أعداء، ولا يتركون لجمهورهم مساحة تفكير. إنه الحشد لكن عبر الكتابة المتعالية التي تعرف أكثر، وتملك حقيقة مطلقة رغم أناقة استمدها هذا الخطاب من طول اضطهاد أنظمة القمع، ومن جلوسه على الهامش.
الخطاب الآن بدون أناقة المضطهد، وفي مواجهة ثورة حرّرت العقل والتفكير والشوارع، والتقت في الميدان أطياف من المدينة، أذابت قشرتها الجامدة، وتخلّصت من السطوة للمرّة الأولى، فلا الإسلامي اصطحب إلى ميدان التحرير مخاوفه من المرأة العصرية، بسيجارتها، وجرأتها على سلطة الذكر الخالدة. والمرأة نفسها لا يلقيها الخطاب الإسلامي في ذيل الجيوش، ولا يرجمها بحجر. مساحة قبول ربما أوجدتها خبرات العيش المشترك، أكثر من القلب الأيديولوجي المصاب أساساً بتصلب شرايين من طول القهر والقمع والاستبداد.
في الميدان، اختفى الإقصاء، لكنه الآن يعود الى الشوارع بعودة سلطات الوصاية، التي أردات الاستفتاء على التعديلات فرصةً لاستعادة قطعانها الهاربة، ورونقها الضائع. هذا ما فعلته الكنيسة، فشلت في لمّ قطعانها المؤمنة بعيداً عن ميدان الثورة، وها هي تحاول استعادتهم بشحن مضاد، ووصاية موجهة الى الإخوان والسلفيين، تأمر رعيتها بـ«لا» ضد التعديلات.
الكنيسة والجماعة تحفزان في الجيش تركيبته التي يجتهد في إخفاء ملامحها، تحفزانه على خطاب أبوي يرى أن الـ«نعم» فيها دليل محبة الشعب، وعامل فرز يثبت أن التصوير مع الدبابات والتمسح بها، يمنحه شرعية أكبر من الثورة والسلطة معاً. شرعية الوصيّ الخالد في الجمهورية الثانية.
هذا سر القسوة في خطاب الجيش بعد يقظة مؤسسات الوصاية، ودعمها غير المعلن لوجوده. فهو الخط الأحمر، والجدار المقدّس الذي تقف تحت ظلّه كل مؤسسات الوصاية وجمهورها من الذين لم يتخلّصوا بالثورة من عبوديتهم وحنينهم الى القهر والشكوى من الاضطهاد.
الجماعة تحاول استعادة سحر الاضطهاد الذي فقدته مع الثورة، والكنيسة من جانبها تشير الى هذه المحاولات لتوقظ رعاياها ضد جمهورية المضطهدين. وهما معاً يلتقيان عند إعادة إنتاج الجمهورية التسلطية، فيقيم زكريا عزمي، رئيس حاشية مبارك، سرادق دعاية لـ«نعم» يوزع فيه هدايا معتادة. لكن بدون يقين بالنتيجة.
الأوصياء نقلوا قلقهم من النتيجة إلى الجيش، الذي يخاف أن يقول له المجتمع «لا» فتهتز شرعيته المطلقة، بعدما وضعها رهن إجراءات سياسية، وتورط فيها مع رغبات صغيرة في الحصول على مكسب سريع بدلاً من بناء حياة سياسية جديدة يحترم فيها الجميع بدون وصاية ولا تقديس.



31.5 مليار دولار لمبارك في أميركا


أعلن رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي، جون كيري، أن ثروة الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك (الصورة) التي جُمّدت في الولايات المتحدة تبلغ 31.5 مليار دولار. وأوضح أن «هذه الثروة موزّعة في عدد من المدن الأميركية، وتشمل عقارات في نيويورك وكاليفورنيا وأرصدة في بنوك عدة». وقال «لقد جمّدنا أصول مبارك التي تقدّر بنحو 31.5 مليار دولار أسوة بما جرى في أماكن أخرى من العالم».
وتجدر الإشارة إلى أن هذا هو أول اعتراف أميركي بحجم ثروة مبارك، بعدما كانت تقارير إعلامية قد أشارت عقب سقوط مبارك إلى أن ثروة العائلة كلها تصل إلى 70 مليار دولار. حينها، قال مسؤولون أميركيون إن الرقم مبالغ فيه جدّاً، وقدّروا ثروة العائلة بنحو مليارين إلى ثلاثة مليارات دولار.
(الجزيرة)