بنغازي| الكل في شوارع بنغازي يشعر بالسعادة. أصوات فرِحة بتغيير النظام ورحيل القذافي عن ليبيا، مع دعاء متواصل بأن يقرّب الله النصر ليصل الثوار الى طرابلس وينتهي كابوس حكم العقيد معمر القذافي. الكل في الأسواق، وفي الأحياء الأشد فقراً، كما في المناطق الراقية، من يدير الثورة، ومن اضطر مع بداية الثورة إلى القيام بأعمال بسيطة ليعتاش وعائلته منها، الكل يتحدث بخطاب واحد، وليس في الأمر دعاية سياسية، فمن يتعرّف الى الثوار عن قرب يكتشف عدم قدرتهم على بث أيّ نوع من الدعاية السياسية بعد.
هناك من يخبرك أنّ يومه كان يبدأ بالصياح، ويتواصل بالتوتر، وينتصف بالشعور بأن دماغه خال، وينتهي بالنوم مع التمني بألّا يستيقظ. وهناك من يقول إنه كان كل يوم يشعر بأنه يكرر اليوم السابق، وأنه اكتشف فجأةً الحياة بعدما بلغ الخمسين، حين تمكّن من الصراخ في الشارع «الشعب يريد إسقاط النظام».
يعتقد الليبيون بصدق أن ما قاموا به كان خطوة عملاقة، وكانوا يعتقدون ببساطة أنهم سيقيمون تظاهرات لأيام عدة، ثم يرون ما سيحصل وكيف سيتصرف النظام. قاد المحامون هذه التظاهرات، وفجأةً اكتشفوا أن الناس يريدون المزيد، وهاجم الشبان مقر الكتيبة الأمنية في بنغازي، بعدما أطلق رجالها النار على المتظاهرين. سقط مقر الكتيبة لتبدأ حرب يقودها القذافي ضد أبناء وطنه، وليجد المحامون أنفسهم قادة لثورة هبطت عليهم من حيث لا يدرون.
مئات من الكوادر الليبية انضمت الى الثوار. لكن ما قام به النظام على مدى أعوام طويلة من تدمير للبنى التحتية والمنظمات المجتمعية، وحتى لدور التنظيم الإداري في الشركات، وإشاعة الفوضى في المرافق، أدت كلّها الى نشوء شريحة من الكوادر غير الاختصاصية، رغم التحصيل العلمي الذي اجتهدت في سبيله.
في المقابل أعطي الدور الأكبر في ليبيا للإدارات الأجنبية، ولشركات غربية وشرقية، وللعمالة الأجنبية. وفي الأيام الأولى للثورة، حين خرج العمال الأجانب فارين من البلاد، افتقدت المرافق الأساسية من يسيّرها. مع تقدم الأيام تحسنت الأوضاع قليلاً، لكن ليس على مستوى التنظيم، بل فقط تسيير الأمور.

الإعلام نموذجاً

المركز الإعلامي للثوار الليبيين يمثّل نموذجاً جيداً لقراءة واقع الثورة. هناك في بنغازي مئات من المتطوعين العاملين في المركز الإعلامي، يبدأ نهارهم الساعة التاسعة، نشاطات هائلة في مركز الأمن السابق، الذي تعرض للحرق، ومن ثم أعاد الشبان تأهيله، وأطلقوا منه الخدمات الإعلامية للصحافة الأجنبية، إلّا أن الأمر يبدو أشد تعقيداً من أن يسير العمل بطريقة تلقائية.
القاعات في المركز مفتوحة بعضها على بعض، كل شيء مكشوف أمام الجميع، الغرف مليئة بأشخاص لا عمل لهم إلا الحشرية. المتطوعون لا يعرفون الكثير عن الإعلام، معظمهم مهندسون أو اختصاصيون في إدارة الأعمال تلقّوا علومهم في الخارج. قدرتهم الأهم هي إلمامهم باللغة الإنكليزية، لكنها المرة الأولى التي يرون فيها صحافيين.
إضافةً الى الخدمات للصحافة الأجنبية، التي باتت تتلخص في تسجيل أسماء الصحافيين وإعطائهم بطاقات تشبه بطاقات المشاركة في المؤتمرات الرسمية، وفي تقديم خدمة الإنترنت بعدما أوقف القذافي الخدمة إيقافاً كاملاً، تمثّل الخدمة الأبرز الاستماع الى مطالب الصحافيين من دون أن يتمكن المسوؤلون عن المركز من تقديم إجابات واضحة.
في المركز الإعلامي نفسه، أعطيت غرف للمهندسين والرسامين وقطاعات أخرى كالتلفزيون، لكن لا شيء يعمل فعلياً. المهندسون تحولوا الى مجرد تقنيين يقومون بإصلاحات بسيطة لأجهزة الكومبيوتر والتلفزيونات، ويمدّون كابلات الكهرباء بين الغرف المحروقة. وخبراء الاقتصاد تحولوا الى مترجمين لمجموعة من المراسلين الغربيين الذين يعتاشون من بيع صورهم الى وكالات الأنباء. ومن فرز نفسه للعمل في التلفزيون يسجل برامج لا إمكان لبثها، ويقول إنها تحفظ للتاريخ.
تعمل صحيفة «ليبيا الحرة» بطريقة متقطّعة، تصدر حين يتمكن الناشطون من ذلك، وتوزّع ليلاً أحياناً عن طريق متطوعين، بينما تعمل الإذاعة المحلية في بنغازي، التي اتخذت اسم «ليبيا الحرة» أيضاً، عملاً متواصلاً، لكنها أحياناً تبثّ موسيقى لساعات متواصلة، ثم تبدأ بتلقي اتصالات المواطنين أو تذيع الأخبار قبل أن تعود إلى الموسيقى والأغاني الوطنية التي تختلط ما بين ليبية ولبنانية.
في المركز الإعلامي أيضاً مجموعة من الرسامين الذي يتحلقون كل يوم ليرسموا صوراً للقذافي وعليها بعض العبارات، لكن أياً من هذه الرسوم لا يجد طريقاً إلى النشر، فقط تعلّق على الجدران، وترسل الى الخيم المنتشرة في العديد من الأحياء، وخصوصاً مقابل مبنى المحكمة المتاخم للمركز الإعلامي.

خطط مفقودة

فيما يتسلى العقيد معمر القذافي بأداء دور محمد سعيد الصحاف (وزير إعلام صدام حسين)، ويشيع أنباءً عبر وسائل إعلامه حيناً، وبلسانه أحياناً أخرى، عن عودة السيطرة على مناطق سبق أن انتفضت وانضمت إلى الثوار، يعيش القادة الثوريّون أوضاعاً معقدة، وهم بحاجة الى تنظيم خمسة قطاعات على الأقل: الجيش، الأمن الداخلي، القضاء، الاقتصاد وإدارة الموارد، وخامساً الإعلام.
وبحسب الكثير من الليبيين العاملين في هذه القطاعات فإن الأمور تسير الآن كما كان يسيّرها القذافي سابقاً، بانتظار أن تتغير الأوضاع لاحقاً، وتتمكن الإدارة الجديدة من تحسين سير الأعمال، وتغيير أسلوب الإدارة، لكن بالانتظار، فإن الجيش، أو بالأحرى القوى المرابطة على خطوط القتال، تعيش في حالة من انعدام الوزن، وهي تتقدم بفعل انشقاقات قوات القذافي نفسها، أكثر منها بفضل هجماتها المنظمة والصاعقة، وهي تتولى التصدي لمحاولات قوات القذافي القتالية الجيدة التجهيز بما توافر من عتاد ودون خطط عسكرية فعالة.
وتعيش القوات العسكرية تحت رحمة تنصت طرابلس عليها، وهي لحسن حظها، تعمل دون تنظيم محدد، ما يصعّب عملية ضربها. كما أن هذه القوى القتالية تستفيد من عوامل خفية؛ هي أولاً خوف القذافي من تعريض قواته لعمليات قتالية جادة، وتخطيطه للصمود لأطول وقت ممكن في المناطق الغربية من دون التقدم نحو الشرق، ثانياً خوف القذافي من انتفاضات في المناطق المحيطة بعاصمته، وبالتالي الاحتفاظ بالكثير من القوات في محيط العاصمة حتى لا تسقط بيد المتمردين، وثالثها اعتماده على فوضى الثوار أنفسهم، وانعدام القدرات التنظيمية والإدارية لديهم، وعدم توافر الذخائر والعتاد والأسلحة الكافية للتقدم الى الغرب.
الأمن الداخلي أيضاً في حال من انعدام الوزن في مناطق الثوار، ولولا الحالة المعنوية العالية التي تعيشها المناطق المنتفضة والثائرة، لشهدت هذه المناطق أعمال سرقات وجرائم وتخريب، لكن حادثة واحدة، أو شائعة واحدة تطلق في أي مكان، يمكنها أن تمثّل تشويشاً حقيقيّاً على عمل الثوار، الذين لم يتمكنوا حتى اللحظة من معرفة طبيعة التفجير الذي استهدف مخازن الذخائر غرب بنغازي مساء الرابع من آذار.
وفي القضاء والاقتصاد تمكن الثوار من خفض أسعار السلع والمواد الرئيسية، بعدما ارتفعت لأيام، وهم وضعوا أيديهم على السيولة الموجودة في مصرف بنغازي التابع للمصرف المركزي في ليبيا، وحددوا وجهات الإنفاق، لكنهم حتى اللحظة لم يجيبوا عن أسئلة معقّدة حول أسلوب إدارتهم للموارد إذا استمرت المعارك أسابيع أو أشهراً.

قيادة إدارية للثورة

الاجتماعات التي يعقدها الإداريون (وهنا يستحسن استخدام لفظ إداريين بدلاً من قادة) في الثورة تحصل بشروط من السرية البدائية، حيث يلتقي الإداريون في بعض الأماكن والمجمعات التي كانت تابعة للنظام السابق، لكن دون معرفة أي من مرافقيهم، لضمان سرية اللقاءات. أما رئيس المجلس المؤقت، القاضي مصطفى عبد الجليل، فيتنقّل بين مواقع عدة. هو حيناً في البيضاء، وحيناً آخر في بنغازي، وأحياناً في مناطق أخرى. أما لقاءات المجموعات الأخرى، فهي أيضاً خاضعة لمجموعة من الإجراءات الأمنية البسيطة، التي يمكن اختراقها بسهولة.
لكن هنا الجواب الوحيد الذي تسمعه هو نقص الخبرة وقلة المعرفة، حيث لا تجري أعمال تفتيش لدى دخول أي غريب لغرف اجتماعات الإدارة المركزية، ولا يجري التحقق من الهويات جديّاً، ولا أحد يدري ما نفع الإجراءات الأمنية الهادفة الى إبعاد الرقابة، بينما يحمل المجتمعون أجهزتهم الخلوية حيث يذهبون، ويركنون سياراتهم في مراكز مكشوفة.
ويعيش القادة الجدد هاجساً مقلقاً، فهم ليسوا قادة ميدانيين، ولا ثوريين محترفين، ولا هم خططوا للثورة، كما أنهم عرفوا اليوم طعم حريتهم، تماماً كما مواطنوهم، ويعرفون في المقابل انتقام القذافي، الذي يقولون إنه لن يكتفي بإعدام المتمردين، بل سيتلذّذ بتعذيبهم أولاً ولفترات طويلة.
القادة الجدد لا يعرفهم المواطنون معرفة واسعة. الجمهور الواسع الذي يقاتل في الجبهات أو يتجمع في الساحات لا يعرف من هو وزير دفاعه الجديد أو وزير خارجيته المؤقت، لكن رياح الثورة التي أعطت ثقة للمواطنين بالقيادة الجديدة تسمح لهذه الإدارة بهامش من الوقت ومن الأخطاء.