بنغازي| في مكتب الإعلام المركزي للثورة الليبية في بنغازي، يأتي من يطلب منك نقل الأخبار إلى وسائل الإعلام. لكن المشكلة تكمن في توزيع المعلومات؛ فكل قناة إخبارية فضائية، بل كل وسيلة إخبارية، لها سياستها وبرنامج عملها الخاص، الأمر الذي بدأ يدفع بالقيادة الثورية إلى العمل ليل نهار لإيجاد وسيلة لإطلاق قناتها الفضائية عبر الأقمار الصناعية. لكن هذه الأخبار التي ينقلها الثوار إلى الإعلام لا تعني الصحافيين، ليس لأنهم يعملون فقط وفق منطق السبق الصحافي والصورة الجذابة، بل أيضاً لأن لا أحد يعرف طبيعة هذه البلاد وانتشار مناطقها والتوزع السكاني فيها.
فخبر مثل أن الزنتانة تعرضت لهجوم من قوات معمر القذافي وصدت الهجوم، وتوزيع أرقام هواتف القيادة في الزنتانة على الصحافيين، لا يكاد يلقى صدى في مقابل عمليات قصف ومناوشات محدودة في البريقا، علماً بأن الزنتانة تقع في غرب البلاد.
ولا تجد أصوات النجدة المنطلقة من الزنتانة أي صدى، وهي تعيش حصارها ونقص المواد الغذائية والطبية بصمت، لا يخرقه إلا اتصالات هاتفية تجريها مع مقار قيادة الثورة في بنغازي. مشكلة أخرى في الإعلام هي اعتبار ما يأتي به القذافي من معلومات جيوبوليتيكة صحيحاً، علماً بأن جميع المعطيات على أرض الواقع لا تشير إلى صحة أي من خطاباته. وها هم أهل بنغازي يكتبون اسمه على الجدران ويضيفون إليه لقب «كبير ضباط الموساد».
غرب ليبيا كما شرقها ينتفض، ومن خلال الهاتف يمكنك سماع صوت شاب في طرابلس الغرب، يتحدث عن الوضع هناك. يقول: «الوضع هنا هادئ اليوم، والناس يتجولون في الشارع، للأسف ليس كما في بنغازي، بل على العكس تماماً». يحكي الرجل بأسى واضح قبل أن ينهي المكالمة.
الزاوية والزنتانة، عمليات القتال اليومية، مئات الشبان الذين يتطوعون للقتال مع الجنود النظاميين، وأبناء قبائل وعشائر متنوعة لكنها متفقة، يعيش أفرادها في مدن رئيسية كطرابلس وبنغازي، وقد بدأت تغادر نزعتها القبلية بالنوم لمصلحة اندفاعة الحس التحرري، من كابوس جثم على صدورهم طوال أربعة عقود، وهم اليوم يقفون إلى جانب الطرق يحيون الثوار الذاهبين إلى هنا أو هناك لقتال قوات العقيد وكتائبه الخاصة.
في بنغازي يمكن سماع أصوات إطلاق النار على نحو متفرق، بعضها ناتج من عمليات تشييع للشهداء. من مبنى محكمة شمال بنغازي يمكنك مشاهدة موكب تشييع يتخلله إطلاق نار متفرق، بينما رفعت في داخل المحكمة التي أصبحت مقراً للثوار عشرات الملصقات المرتجلة والشعارات، منها: «لا للفوضى»، ومنها أيضاً «وفروا كل طلقة للمعركة الكبرى». كذلك يمكن سماع أصوات طلقات الرشاشات المضادة للطائرات، خلال عمليات تدريب المتطوعين الجدد على استخدامها، حيث يدربهم عناصر وضباط من الجيش التحقوا بالثورة.

لالثورة والتعلم

«حين تمكنا من إسقاط ثكنة الكتيبة في بنغازي، اكتشفنا أن هذا النظام كرتوني، فخمسة أيام من القتال بالحجارة كانت كافية لإسقاطه». يقول أحد المشاركين في إطلاق أول مشروع تلفزيوني خاص بالثورة.
في المقابل، تعلم الثوار يومها أن النظام أذكى مما كانوا يتخيلون. لقد ترك في الثكنات النظامية وفي مواقع الكتائب الخاصة آليات قديمة، وأسلحة ثقيلة، وأفرغها من الذخائر، حتى يواجه المتمردين بأسلحته وبخردة يحملونها هم، ثم يقول للعالم إن ما يحصل هو حرب أهلية، وعصابات من المقاتلين المتمردين يحاولون إطاحة نظامه.
هنا لن تجد من يقول لك إنه يعرف، أو إنه خبير في أي شأن غير اختصاصه المهني، فلا معرفة جدية بالوضع في المنطقة العربية، ولا في لبنان. حين تلفظ اسم بلادك سيبتسمون بترحيب ويقولون لك نعم، نعرف أن لبنان بلد جميل ومتحضر وأهله مسالمون، ونعرف أن القذافي خطف الإمام موسى الصدر، ولديكم مقاومة ضد إسرائيل، ولكن حين تسأل عما يعرفونه أبعد من ذلك ستسمع الجواب نفسه من المحامية، من الطالب الجامعي، من سائق سيارة الأجرة، من صاحب محل البقالة، من عامل الفندق، من العامل على إطلاق إعلام ثوري جديد، ومن كل من تلتقيه: «لا أعرف الكثير في السياسة».
المتعلمون في الغرب هنا يجدون راحة أكبر في التحدث بالإنكليزية، بعضهم اعتاد ذلك هرباً من آذان المتطفلين من جواسيس النظام واللجان الثورية، وآخرون اعتادوا التحدث بالإنكليزية أخيراً ليشعروا بأنهم أحرار. كذلك، فإن معظم المتعملين الذين انضموا إلى الثورة تعلموا في جزء من حياتهم في الخارج، ومعظم هؤلاء لا يبدو أنهم من الطبقات الفقيرة، بل من أولئك الذين تمكنوا من شق طريقهم بالحياة، أو ينتمون إلى أسر ميسورة نسبة إلى معظم سكان ليبيا الفقراء. ويضاف إلى ما سبق أنهم لم يعتادوا بعد رؤية هذا الكم من الأجانب في بلدهم، وخصوصاً الأجانب الفضوليين الذين يسألون كل الأسئلة، وينتظرون اليوم إجابات شافية لهم.
لكن العديد من هؤلاء يستغربون حين تطرح عليهم أسئلة عن القيادة السياسية للبلاد، كما شابة وشاب في مركز إعلامي تابع للثورة. ينظر الشابان أحدهما إلى الآخر قبل أن تسألك الفتاة: «ماذا تعني بالقيادة السياسية؟ اللجان الثورية؟».
«فوضى؟»، تسألك دكتورة في القانون تعمل على إدارة ملفات رئيسية في الجسم الإعلامي والتنظيمي في الثورة، وتستنكر حين تسمع ملاحظاتك. «قبل أسابيع كان الخبير والناشط بيننا هو من شارك في تظاهرة، وكان عدد هؤلاء الناشطين اثنين أو ثلاثة لا أكثر، واليوم نحن ندير البلاد هنا، ونعمل على تحرير باقي وطننا».
قبل الثورة كان النشاط السياسي محصوراً بالعقيد معمر القذافي وابنه سيف الإسلام ولا أحد آخر. واللجان الثورية وكل ما يحكى عن هيئات هي بالنسبة إلى المواطنين هنا مجرد أجهزة تابعة للقذافي، وهي أصلاً لم تتعاط بالشأن السياسي. المركزية كانت قاتلة، والكوادر الليبية كانت تفضل الهجرة، ويخبرك من غادر البلاد للتعلم وعاد بأن معظم الذين تعلموا في الخارج فضلوا البقاء في الغرب، حيث الحياة أفضل وفرص العمل متاحة وفق الكفاءات، لا التبعية للنظام.

لالرهان على الجهل

«القذافي كان يراهن دائماً على جهلنا وعدم قدرتنا على إدارة تحرك من أي نوع، وكان يعمل على تدمير منهجي للبلاد. انظر حولك. هل هذه بلاد النفط والثروات؟ طبعاً هو منذ التسعينيات كان يتوقع أن ننتفض، فدمر تدميراً ممنهجاً لكل شيء: الناس والبنى التحتية والقضاء»، تقول الدكتورة في القانون إيمان بو قيمقص. وتضيف: «نحن فخورون بأننا من دون أي شيء، من دون دستور ومؤسسات قمنا بثورة، ونحن فخورون بأن لا شيء ينقص بنغازي من مواد غذائية أو طبية أو غيرها، والأسعار ثابتة بتعاون من الناس والتجار، ونحن فخورون بأننا جمعنا من المدنيين، ووصلنا إلى مجلس انتقالي، وحكومة واتفاق بين جميع الفئات، ونحن فخورون بأن ما كان يعتمد عليه من تفريق بين القبائل لم ينجح، وأن كل المناطق تجمع على أن عاصمة البلاد هي طرابلس. لقد جعلنا نخسر كرامتنا في السابق، واليوم نحن نفخر بأننا نتمكن من العمل ومن إدارة البلاد».
تجول في المحكمة ترافقك محامية شابة لطيفة ترتدي الحجاب، وتقول إن «الحجاب هو جزء من الثقافة المحلية. هناك نساء في قيادة الثورة لا يرتدين الحجاب، المسألة هي في الاقتناعات الشخصية، لكننا جميعاً مسلمون».
المحامية الشابة التي تجول بين قاعات المحكمة تحكي عن وظائف القاعات وهي تشير إليها: «هنا كان الادعاء العام الناطق باسم الشعب، أي النظام، وهنا كانت الزنازين التي يوضع فيها السجناء السياسيون» في الطبقة الرابعة من محكمة شمال بنغازي. وحين تسأل محمد بنوس (المشرف على معظم أعمال إطلاق الفضائية والإذاعة المحلية والإنترنت من خارج الشبكة الليبية) عن الفوضى وكثرة المتطوعين، يقول إن هذا ما دفعهم إلى أخذ الطبقة الأخيرة من المحكمة وإغلاق الأبواب الحديدية على أنفسهم.

لأول ثورة

عصام يشرح أكثر بأن لا أحد كان يعمل في مجال اختصاصه خلال أيام النظام السابق. كان الشاعر الذي يرفض أن ينظم قصائد في ثورة الفاتح يعمل في حفارات آبار النفط. وهو، أي عصام، الرسام، كان يعمل في كسارة، ويقود شاحنات. في الأيام الأولى من الثورة، اقتحمت مجموعة من الثائرين المحكمة وقررت أن تنشئ شبكة بث تلفزيونية على الإنترنت مستعينة بمواقع بث مجانية، وفُكِّكت أجهزة المحكمة وجُمِّعت في سيرفرات (خوادم) أكبر حتى تتمكن من تحمل مئات الملفات من الفيديو وتنقل إلى العالم أصوات ليبيا الحرة. واليوم، الحاجة هي لبث فضائي مباشر لوصل البلاد ضمن علم ثوري واحد يجمع الشرق المفصول بقوات القذافي عن الغرب.
بالقرب من المحكمة، يقع مبنى أمن الدولة الذي أحرقه المتظاهرون في الأيام الأولى من الاحتجاجات. يجتمع فيه اليوم مئات المتطوعين. لكن في ظل فوضى هائلة، يعترض محمد كبلان على وصفها بالفوضى، ويجيبك بالإنكليزية: «نحن نقوم بعمل جيد، ثم هذه هي المرة الأولى التي ننظم فيها ثورة». وتخلت قيادة الثورة عملياً عن مقرها في المحكمة ومقر الأمن لتنتقل للعمل في عدة أماكن بحثاً عن بعض الهدوء خلال الاجتماعات.
اللجان المشرفة على الأعمال تكاد تكون مؤلفة مناصفة بين النساء والرجال. تجيبك النساء بطلاقة أكثر من الرجال هنا، لماذا الآن؟ «طبعاً الفضل لتونس»، تقول إحدى قياديات الثورة. لقد جن القذافي عندما بدأت الثورة في تونس، وازدادت هستيريته عندما اشتعلت ثورة مصر، وأغدق المال على الشبان، لكن الوقت كان قد تأخر.
«اعتدنا القول إن الشعب يريد إسقاط النظام، أحد الشعارات التونسية ومن بعدها المصرية، وحين نزلنا إلى الشارع كان طموحنا أن نقوم بتظاهرة فقط، وأتى القمع القاسي، ووجدنا أنفسنا نصرخ الشعب يريد إسقاط النظام، ثم اكتشفنا أننا نقوم بثورة»، تقول القيادية نفسها.
هكذا، وقف المئات في العشرين من شهر شباط في بنغازي محيطين بمقر الكتيبة الخاصة، وهم يقاتلون هناك بقنابل المولوتوف، كما يقول أحمد سائق سيارة الأجرة الخمسيني. الكل صار يصرخ: «نموت من أجل ليبيا»، وكان بيننا «متعلمون ودكاترة ونساء ليبيات».

لا تدخّل أجنبياً ولا إسلاميين

كل من تحدثه في ليبيا يقول إن على أبناء ليبيا حل مشكلاتهم بأنفسهم. لا أحد يرحب بأي تدخل أجنبي، حتى المعارضة في الخارج «هم يعلمون أن كل ما نطلبه منهم هو الدعم، لكن الآن دورنا في العمل»، تقول إحدى المحاميات الناشطات. أما التدخل الأميركي، فأمر غير مرحب به: «نحن نعلم أننا بحاجة إلى الغرب لتطوير بلادنا، لكن نريد العمل بمفردنا، وعلى الغرب أن يعلم أننا معتدلون هنا»، يقول أحد مهندسي النفط المنضمين إلى الثورة.
أعلن ذلك، في الوقت الذي قال فيه مصدر في الجيش الأميركي إن القوات الجوية الأميركية طلبت من كرواتيا توفير ممر جوي لطائراتها نحو أفريقيا ابتداءً من الخامس عشر من الشهر الحالي.
«عليكم أن تصبروا على أبناء ليبيا وهم يتعلمون إدارة شوؤنهم بأنفسهم»، يقول لك أحد الكوادر العاملين في قيادة الثورة. ويتابع: «لو أتى شارون إلى ليبيا لما تمكن من تدميرها كما دمرها القذافي، وضعنا لا يشبهه أي شيء، نحن نبني الآن من تحت الصفر، فلا تشبّهونا بدول لديها دساتير ومؤسسات، وأولويتنا حالياً تحرير عاصمتنا وبعدها نفكر بباقي النقاط السياسية».
وبرأي كل من تلتقيهم، فقد تخطى الشعب الليبي الخوف، بفضل تونس ومصر، وأصبح التراجع مستحيلاً حتى بالنسبة إلى سكان طرابلس، وسيكون انتقام معمر القذافي معروفاً بحال استكان الثوار.
التلاوين السياسية في البلاد هي أمر مجهول حتى اللحظة. لقد اختبرت البلاد مجموعات إسلامية جهادية في السابق، لم يعارضها الشعب الليبي لكنه لم يؤيدها أيضاً، كما يقول من تلتقيه. ويخبرك من عايش تلك المرحلة في التسعينيات أن التطرف جاء نتيجة القمع والكبت، لكن فكرة الأحزاب كما في كل دول العالم هي أمر مجهول هنا، وحتى تنظيم الإخوان المسلمين يكاد يكون معدوماً في داخل البلاد، ولا تجد من يرشدك في بنغازي إلى قياديين في تنظيم الإخوان.
«على العالم أن يقبل بأننا مسلمون، لكننا لا ننتمي إلى أي فريق غير المذهب المالكي، وهو أكثر المذاهب الإسلامية انفتاحاً»، تقول الدكتورة إيمان بو قيمقص التي لا تضع الحجاب. وتضيف: «لا تتعب في البحث عن الفرق السياسية الإسلامية، فليس لدينا نشاط سياسي هنا، وعلى الغرب أن يعرف أننا بحاجة إليه لكن بعيداً عن السمسرات التي كان يحصل عليها من القذافي».